يمكن تفسير اتجاه تركيا نحو إعادة هيكلة وتنظيم الفصائل الموالية لها في الشمال السوري والمكونة لما يُعرف بـ”الجيش الوطني السوري”، في ضوء اعتبارات عديدة، منها الإسراع بعملية ترحيل اللاجئين، ومحدودية فاعلية الدمج الحالي، والخلافات بين الفصائل على المكاسب المادية، واحتمال الدخول في تسوية مع النظام السوري برعاية روسية، وتوحيد صفوف الفصائل الموالية لدعم العمليات ضد “قسد”.
تسعى تركيا إلى إعادة هيكلة فصائل ما يُعرف بـ”الجيش الوطني السوري” الموالية لها في الشمال السوري، ودمج تلك الفصائل في كيان واحد بقيادة موحدة، خلال الفترة المقبلة. ورغم عدم تصريح تركيا رسمياً بهذه الخطة، أو التلميح للمضيّ فيها؛ إلا أن تقارير نقلت عن مصادر تركية أن الخطة تستهدف بالأساس المجموعات التابعة لها في “الجيش الوطني” بمناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، مع استبعاد انضمام “هيئة تحرير الشام” –التي تسيطر على محافظة إدلب- إلى هذه الهيكلة الجديدة، رغم التقارب مع تركيا.
وإذا أقدمت تركيا على المضيّ في هذا الخطة، فإنها تعكس رغبة في تفكيك حالة الفصائلية التي تسيطر على المناطق الخاضعة لـسيطرة “الجيش الوطني السوري”، في إطار ترتيبات وحسابات معينة لأنقرة.
سياقات محفزة
يأتي الحديث عن اعتزام تركيا إعادة هيكلة فصائل “الجيش الوطني السوري”، في ضوء عدد من السياقات المحفزة لهذه الخطة، أبرزها:
1- اقتحام “هيئة تحرير الشام” لحلب: تزايد الحديث عن هذا التوجه التركي، عقب توغل “هيئة تحرير الشام” في محافظة حلب، واقتحام مدينة عفرين والسيطرة عليها، وطرد عناصر ما يُعرف بـ”الفيلق الثالث” التابع لـ”الجيش الوطني السوري”، واستمرار المواجهات لمدة تقارب الأسبوعين بداية من 14 أكتوبر 2022، قبل الانسحاب من المحافظة، بناءً على تفاهمات مع تركيا، بعد ضغوط شعبية لرفض وجود عناصر “الهيئة” في المحافظة، من خلال تظاهرات في مدينة أعزاز، بعد اتجاه عناصر “الهيئة” إلى التقدم باتجاه المدينة.
وتزايدت التساؤلات حول الموقف التركي غير الحاسم من اقتحام “هيئة تحرير الشام” محافظة حلب، في ضوء العلاقات والتقارب بين الجانبين، إضافة إلى قتال “الهيئة” لـ”الفيلق الثالث” التابع لـ”الجيش الوطني السوري” الموالي لأنقرة.
2- توترات بين فصائل “الجيش الوطني”: تشهد محافظة حلب خلافات وتوترات بين فصائل “الجيش الوطني السوري” وبعضها بعضاً.وقبل اقتحام “هيئة تحرير الشام” للمحافظة، والسيطرة على مدينة عفرين، شهدت مدينة الباب مواجهات بين “الفيلق الثالث” وتحديداً “الجبهة الشامية” و”جيش الإسلام” من جانب، وفرقة “الحمزة” من جانب آخر، على خلفية مقتل ناشط إعلامي، بما يعكس تحول التوترات الكامنة إلى مواجهات مسلحة.
كما أن هذه التوترات ظلت حاضرة في المشهد بمحافظة حلب، عقب اقتحام عناصر “هيئة تحرير الشام” للمحافظة،إذ وجهت فصائل “الفيلق الثالث” انتقادات لفرقتي “الحمزة” و”السلطان سليمان شاه” بتسهيل مرور عناصر “الهيئة” إلى داخل المحافظة.
3- محاولات سابقة لدمج فصائل “الجيش الوطني”: لا يعدالحديث عن خطّة تركيا لدمج فصائل “الجيش الوطني السوري” في هيكلة جديدة، الأول من نوعه على مستوى الفصائل الموالية لأنقرة في مناطق “غصن الزيتون” و”درع الفرات”، إذ سبق أن أعلن عددٌ من الفصائل الاندماج تحت تجمع يحمل اسم “حركة ثائرون” (أكتوبر 2021)، قبل أن تندمج مع ما يُعرف بـ”الجبهة السورية للتحرير” (يناير 2022) تحت اسم “هيئة ثائرون للتحرير”. وخرجت مبادرة من قبل قيادات محسوبة على المعارضة، بضرورة دمج كل الفصائل التابعة لـ”الجيش الوطني السوري” تحت قيادة عسكرية موحدة، مع توحيد الصناديق الاقتصادية لما يُعرف بـ”الفيالق” الثلاثة، المكونة لـ”الجيش الوطني”، ولكن توقفت المبادرة بفعل خلافات حول الأسماء المطروحة للقيادة في مجلس القيادة.
وبشكل عام، فإن دعوات ومبادرات توحيد الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة، لم تتوقف خلال السنوات القليلة الماضية، ولكن السمة الرئيسية لهذه التحركات كانت عدم القدرة على تجميع كل الفصائل تحت قيادة موحدة، بفعل تعقيدات المشهد، لناحية الخلافات الفكرية والأيديولوجية، واتجاه بعض الفصائل للسيطرة، والخلاف حول المكاسب المادية.
4- استمرار الاستنفار باتجاه مناطق “قسد”: خلال الأشهر القليلة الماضية، لم تتوقف إشارات تركيا الصريحة بعملية عسكرية ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، أو التلميح باقتراب العملية العسكرية، بما دفع إلى استمرار حالة الاستنفار من الجانبين سواء “قسد” أو المجموعات المسلحة الموالية لأنقرة في الشمال السوري. وعادت المواجهات بين الطرفين في 27 أكتوبر 2022، وتبادل الطرفان عمليات القصف، بعد أنباء عن محاولات قوات “قسد” التقدم لمواقع فصائل “الجيش الوطني السوري” في ريف حلب.
5- مساعي تركيا للتقارب مع النظام السوري: أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، في أغسطس الماضي، عن وجود مشاورات بين أجهزة المخابرات في تركيا وسوريا، بعد تلميحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بهذه الخطوة، بالتأكيد على ضرورة العمل على التوصل لحل نهائي للأزمة في سوريا، في وقت تشير فيه بعض التقديرات إلى أن محاولات التقارب تأتي برعاية من روسيا.
ولكن محاولات التقارب بين أنقرة ودمشق تشهد عدداً من الملفات الشائكة. وبالنسبة للجانب التركي فإن مسألة العملية العسكرية ومواجهة “قسد” تحظى بأولوية، أما بالنسبة للجانب السوري فيتعلق الأمر بفرض السيطرة على المناطق التي تخضع لهيمنة فصائل تُصنف بـ”المعارضة” في إدلب وحلب.
ضغوط متداخلة
يمكن تحديد دوافع تركيا حال المضيّ في خطة إعادة هيكلة “الجيش الوطني السوري” بغض النظر عن نجاح تلك المحاولات من عدمها، على النحو التالي:
1- تحجيم المواجهات بين الفصائل الموالية: في ضوء التوترات بين الفصائل المنضوية تحت ما يُسمى “الجيش الوطني السوري”، التي تحولت إلى مواجهات عسكرية، فإن التفكير في إعادة الهيكلة والدمج، والانصهار في كيان واحد جامع لكل هذه المجموعات المسلحة، يمكن أن يكون أحد الخيارات بالنسبة لأنقرة، للسيطرة على الحالة الفصائلية وخفض مستوى التوترات مع بعضها بعضاً، خاصة وأن هذه التوترات والمواجهات المسلحة بين حين وآخر، بفعل التنافس على مكامن النفوذ والسيطرة الميدانية، تشكل عوامل ضغط على أنقرة. وبغض النظر عن موافقة أو رفض تركيا على اقتحام “هيئة تحرير الشام” لمناطق سيطرة مجموعات لـ”الجيش الوطني السوري” في حلب، فإن هذه الخطوة ربما عجلت بفكرة محاولة إعادة هيكلة “الجيش الوطني”، مع احتمال أن تكون الخطة التركية محل دراسة وعمل قبل سيطرة “الهيئة” على عفرين.
2- محدودية فاعلية الدمج الحالي وتشعب المصالح: ربما ترى أنقرة أن التفكير في عمليات إعادة الهيكلة يمكن أن يُوفر قيادة مركزية قد لا تستند إلى شخص واحد، لتعويض غياب القيادة المؤثرة، في ظل محدودية فاعلية وتأثير الدمج بين الفصائل الموالية لأنقرة في ثلاثة فيالق (41 كياناً عسكرياً) مكونة لـ”الجيش الوطني السوري” لتحقيق الاستقرار في شمال سوريا. كما أن الهيكلة يمكن أن تقضي على تشعب المصالح بين الفصائل، من ناحية تمسك كل طرف بالمكاسب المالية التي تتوفر من خلال التحكم في المناطق تحت سيطرته، وتحديداً فيما يتعلق بعوائد التجارة على المعابر، وهو ما يفرض مواجهات ويزيد من مساعي بعض الأطراف للسيطرة والتحكم في المعابر لتحقيق مكاسب مادية.
3- توحيد الفصائل الموالية لمواجهة “قسد”: لم تتراجع تركيا عن اعتبار قوات “قسد” التهديد الأكبر من سوريا تجاه أمنها القومي، وبالتالي هناك أهمية للحفاظ على الوضع القائم بإبعاد الأكراد عن حدودها من خلال “الجيش الوطني السوري” الذي تشارك فصائله في المواجهات مع “قسد”. وهنا، فإن أنقرة تسعى من خلال التفكير في إعادة الهيكلة، إلى إبقاء الأمور تحت سيطرتها مستقبلاً، خاصةً مع التلويح بين حين وآخر بتنفيذ عملية مرتقبة ضد الأكراد في شمال شرقي سوريا.
وعقب خروج عناصر “هيئة تحرير الشام” من محافظة حلب، وعودة الهدوء بعد نحو أسبوعين من التوتر والمواجهات، والأنباء التي تشير إلى عودة المواجهات بين “قسد” وفصائل موالية لتركيا، نفذت وزارة الدفاع التركية تدريبات مشتركة مع فصائل بـ”الجيش الوطني السوري” في منطقة عمليات “نبع السلام”، وقبل أن تُعلن عن تحييد عدد من عناصر “قسد” في المنطقة ذاتها.
4- الإسراع بإعادة اللاجئين إلى الشمال السوري: يبدو أن ثمة تحولاً في الرؤية التركية إزاء اللاجئين السوريين،على نحو انعكس في تصاعد عمليات ترحيل السوريين إلى المناطق التي تسيطر عليها فصائل مسلحة تُصنف بـ”المعارضة”،وبالتالي فإن الحديث عن اتجاه تركيا لإعادة هيكلة “الجيش الوطني السوري”، يمكن أن يؤدي، وفقاً للمقاربة التركية، إلى مزيد من الاستقرار في مناطق الشمال السوري، وبالتالي محاولة توفير حماية للعائدين إلى سوريا، وشمول عمل الحكومة المؤقتة لكل الجوانب المدنية، في ضوء رؤية تركية بإعادة توطينهم مجدداً، ليس فقط بسبب الضغوط التي يتعرض لها حزب الرئيس رجب طيب أردوغان، ولكن أيضاً لتأسيس منطقة عازلة مع الأكراد، ولكنها تتشكل من المدنيين.
5- إمكانية تكرار “تسوية الجنوب” بشمال سوريا: في عام 2018، بدأ مسار التسويات المتعلق بالجنوب السوري، بعد خروج تنظيم “داعش”، بما مكّن المليشيات الشيعية الموالية لإيران وحزب الله من الانتشار في بعض المناطق. وخلال عام 2021، تمت المرحلة الثانية من التسوية، التي تقضي بدخول قوات الجيش السوري إلى الجنوب، والانتشار في أكثر من منطقة، مع تقاسم السيطرة مع فصائل تُصنف بـ”المعارضة”، تسمى “فصائل التسوية”، في حين ظلت بعض الفصائل المسلحة الأخرى الرافضة تسيطر على المناطق الخاصة بها. وربما ترغب تركيا في تكرار مسار التسوية مع النظام السوري في الشمال، برعاية روسية خلال الفترة المقبلة، ولكن هذا مرهون بالتوافق والتفاهم، حول مناطق “المعارضة”، ومناطق سيطرة “قسد” شمال شرق سوريا.
عقبات قائمة
وأخيراً، بغضّ النظر عن إقدام تركيا على إعادة هيكلة مكونات “الجيش الوطني السوري” الموالي لها، خلال الفترة المقبلة، والمضي في هذه الخطة، لضمان إحكام السيطرة على مناطق الشمال السوري، عقب استمرار التوترات والمواجهات العسكرية؛ فإن أي محاولة في هذا الصدد من المتوقع أن تصطدم بمجموعة من العقبات، منها عدم وجود قيادات بارزة ميدانية تكون محل إجماع بين تلك الفصائل المسلحة، إضافة إلى التباينات الفكرية والأيديولوجية بين مختلف المكونات، فضلاً عن صعوبة تغيير تركيبة الفصائل المسلحة لتصبح قوة عسكرية منظمة وتعمل في إطار هيكل تنظيمي محدد، إذ إنها تعمل منذ تشكيلها كـ”مليشيات”، إضافة إلى ضرورة تحقيق أنقرة قدراً من التوافق والتفاهمات مع الأطراف الفاعلة على الساحة السورية، سواء النظام السوري أو إيران أو روسيا، أو الولايات المتحدة.