مشكلات متجذّرة:
هل تُقدم “الفيدرالية” حلاً واقعياً للأزمة الليبية؟

مشكلات متجذّرة:

هل تُقدم “الفيدرالية” حلاً واقعياً للأزمة الليبية؟



تواجه ليبيا مأزقاً مركباً منذ انهيار نظام القذافي، وهو ما انعكس في انتشار المليشيات المسلحة، وعدم وجود توافق وطني أو خطاب قادر على “لم الشمل”، فضلاً عن الافتقار إلى وجود مؤسسات قادرة على تحجيم الأزمة. وفي هذا السياق، تصاعدت من جديد الأصوات التي تنادي بعودة الفيدرالية، والرجوع إلى دستور 1951 الفيدرالي، وذلك اعتماداً على دافعين رئيسيين، هما: صعوبة إجراء الانتخابات في ظل وجود حكومتين، والتداخل بين الداخلي والخارجي في الأزمة.

في بيان مشترك من الدول الخمس (الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا) تم تأكيد الاتفاق على “هيئة تنفيذية موحدة (حكومة واحدة)، لها تفويض يركز على التحضير للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا”. وشدد البيان، الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، في منتصف سبتمبر الفائت، على “أهمية وضع القاعدة الدستورية للانتخابات، بواسطة الأمم المتحدة”.

هذا، وإن كان يُعيد مسألة إجراء انتخابات وطنية في ليبيا مجدداً إلى الاهتمامات الدولية، فهو-في الوقت نفسه- يتواكب مع الدعوات التي شهدتها الساحة الليبية مؤخراً حول العودة إلى دستور 1951، وإعادة طرح “الفيدرالية” كحلٍّ للأزمة الليبية الممتدة منذ ما يزيد على عقد من الزمان.

عوامل إشكالية

الدعوة إلى “تفكيك مركزية الحكم” في العاصمة طرابلس، والمناداة بعودة الفيدرالية كحل للأزمة الليبية، تعتمد على عدد من العوامل الإشكالية المتجذرة على الساحة هناك، أهمها ما يلي:

1- عدم الوصول إلى تسوية للأزمة: لعل تجارب عشر سنوات من المفاوضات والاجتماعات والمؤتمرات كافية لأن تُثبت أن لا أحد من الأطراف الليبية المتصارعة يريد انتخابات تُفضي إلى حصول طرف على شرعية رئاسية أو برلمانية انتخابية، كما يبدو أيضاً أن لا أحد يُريد نظاماً سواء كان رئاسياً أو برلمانياً، بل ما يُريده كل طرف هو تشريعات تحفظ له بقاءه في الحكم، ونصيباً من “كعكة” الموارد التي تتمتع بها ليبيا.

2- فشل المفاوضات حول مواد الدستور: بعد سنوات طويلة من التفاوض والمؤتمرات الدولية، صار من شبه المؤكد أن الأطراف الليبية المنخرطة في التفاوض بشأن “القاعدة الدستورية”، التي يمكن أن تُجرى على أساسها الانتخابات، لن تتمكن من تجاوز عتبة النظام السياسي، ومن يحق له الترشح لمنصب الرئيس، في ظل خارطة الصراع والانقسام الحاصل على الساحة.

فأطراف الصراع، التي تمترست خلف المليشيات، منذ اليوم الأول لسقوط نظام حكم القذافي، تتفاوض طوال ما يقارب العقد من الزمان لأجل صياغة بضع مواد في الدستور، تتعلق بمن يحق له الترشح للرئاسة، وشكل النظام الرئاسي، برلماني أم رئاسي، وهي المادة التي أشعلت صراعاً مزمناً عطّل كل مفاعيل العملية السياسية طوال تلك الفترة.

3- عرقلة محاولات تفكيك المليشيات المسلحة: في ظل هشاشة النظام الأمني، وانقسام أجهزة الدولة، تُعد قضية المليشيات المسلحة في عموم ليبيا من المشكلات التي تعوق الحلول السلمية هناك. بل إن الحكومة المنتهية الولاية- حكومة عبد الحميد الدبيبة- لم تقم بدورها المنوط بها في تدعيم المؤسسات الرسمية في البلاد، ومحاولة استعادتها وهيكلتها، كما كان يُفترض بها، ولكن على العكس قامت بتقوية المليشيات من خلال دعمها والاستقواء بها. وما الاشتباكات التي دارت بين أنصار الدبيبة، وداعمي فتحي باشأغا، في العاصمة طرابلس، وأوقعت 32 قتيلاً وعشرات الجرحى، في بدايات سبتمبر الفائت؛ إلا مجرد مثال.

وتشير تقديرات عديدة إلى أن عدد المليشيات “المجموعات المسلحة التي تعمل خارج إطار القانون” في المنطقة الغربية، وتحديداً في طرابلس ومصراتة، يصل إلى 50 مليشيا، ويتراوح عدد أفرادها ما بين 120 إلى 200 ألف مقاتل، بحسب تقرير للأمم المتحدة نُشر في مارس 2021.

4- إخفاق جهود السيطرة على انتشار السلاح: تُعد قضية فوضى السلاح في ليبيا من المشكلات التي تعوق إمكانية التوصل إلى تسوية للأزمة. صحيح أنه لا توجد إحصائيات رسمية عن حجم انتشار السلاح في هذا البلد، إلا أن الأمم المتحدة قد أحصت ما لا يقل عن 20 مليون قطعة سلاح، خلال السنوات القليلة الماضية.

هذا الرقم الذي تأكّد من خلال المناقشات التي شهدتها ورشة العمل الفنية في مدينة طليطلة الإسبانية، في 23 مايو الماضي، حول “طرائق الدعم الدولي لبرنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج الليبي”، التابع لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، كان من بين الأسباب التي دفعت خالد مازن وزير الداخلية السابق في حكومة الوحدة الوطنية إلى الإعلان عن مبادرة وطنية لـ”تسريح وإعادة إدماج التشكيلات المسلحة”، إلا أن الوزارة لم تقم بأي خطوة في هذا الشأن طوال الأشهر الماضية.

دافعان رئيسيان

شهدت الأسابيع الماضية معاودة التيار المنادي بالنظام الفيدرالي للحكم في ليبيا نشاطه، خصوصاً في إقليم برقة الغني بالثروات النفطية شرق ليبيا، والذي كان مركزاً لهذا الطرح منذ عام 2011. إلا أن هذا الطرح لم يتوقف عند حدود الإقليم، بل امتدت الدعوة إلى المجلس الرئاسي الليبي، الذي يسعى إلى إعادة ليبيا للعمل بنظام المحافظات، الذي كان متبعاً قبل عام 1969، بقصد “الحد من النزاعات على السلطة”.

ويبدو أن ثمة دافعين يقفان وراء هذه الدعوات إلى اللا مركزية في الحكم، أو تحديداً الفدرلة في ليبيا، وهما:

1- صعوبة إجراء الانتخابات مع وجود حكومتين: في محاولة الخروج من أزمة الانسداد الدستوري، اقترح بعض النواب الليبيين “إجراء انتخابات وطنية في ظل وجود حكومتين”، وأكد البعض الآخر على ذلك، بشرط العودة إلى دستور 1951. ففي حوار معه بـ”إندبندنت عربية”، في 25 سبتمبر الفائت، حول إمكانية إجراء كل من باشأغا والدبيبة للانتخابات، في مناطق نفوذيهما، لتفادي الصراعات السياسية والأمنية التي تتخبط فيها البلاد، قال عضو البرلمان جبريل وحيدة: “في حال المرور إلى هذا الحل، فلا يوجد أمامنا غير اللجوء إلى دستور 1951 الفيدرالي، باعتبار أن هناك عدم ثقة في المركزية التي أوصلت البلد إلى ما هي عليه منذ 50 سنة إلى الآن”، وهو ما يعني صعوبة هذا الإجراء، خاصة في حال رفض النتائج من بعض الأطراف، إذا ما فاز طرف منافس بالانتخابات.

2- التداخل بين ما هو داخلي وما هو خارجي: في الأزمة الليبية، يبدو مثل هذا التداخل بوضوح، ففي وقت سابق، كان للأطراف الدولية الفاعلة في المشهد الليبي وكلاء في الداخل، إلا أن تعقيدات الأزمة وطول أمدها مكّن بعض الأطراف الدولية، بمساعدة أطراف داخلية، من تعزيز وجودها العسكري على الأرض الليبية.

والملاحظ أن الدول الـ”17″ المؤثرة في المشهد السياسي هناك، هي نفس الدول التي شاركت في مؤتمر باريس، وفي برلين 1-2، وفي جنيف. والملاحظ أيضاً أن وكلاء بعض هذه الدول، أو الأطراف التي تدور في فلك كل منها، لا تقتصر تبعيتها السياسية والعسكرية على فرض الانقسام كأمر واقع، بل إنها صارت تقدم خدمات توسيع النفوذ والبقاء في السلطة والحفاظ على المكاسب، على أي شيء آخر.

تحديات محتملة

اختبرت ليبيا تجربة فيدرالية بعيد استقلالها لأكثر من عشر سنوات، وقد تعالت المطالب وتصاعدت الأصوات مجدداً بعد سقوط حكم القذافي، بالعودة إلى النظام الفيدرالي كحل للأزمة التي تعانيها البلاد طوال سنوات، من خلال “تقسيمها” فيدرالياً إلى ثلاثة أقاليم كبرى، تتمتع بحكم محلي في ظل دولة اتحادية. إلا أن التحديات التي ما زالت تواجه هذا المسار لا تبدو هينة، لا سيما في ظل تشابك الحسابات وصراع المصالح بين الأطراف والقوى الداخلية والخارجية.