خيارات صعبة:
هل تُعوِّض فرنسا إخفاقاتها “الأفريقية” في المنطقة؟

خيارات صعبة:

هل تُعوِّض فرنسا إخفاقاتها “الأفريقية” في المنطقة؟



تتعرض فرنسا خلال الفترة الحالية لضغوط شديدة في القارة الأفريقية، بسبب اتساع نطاق الخلافات بينها وبين العديد من دول القارة، ولا سيما في منطقة الساحل والصحراء. فبعد أن اضطرت لسحب قواتها من مالي، التي اتخذت خطوات أخرى مناهضة للنفوذ الفرنسي، على غرار وضع مادة في الدستور تقضي بأن تكون اللغة الفرنسية هي “لغة العمل” فقط بعد أن كانت اللغة الرسمية، فوجئت باريس بوقوع انقلاب النيجر، في 26 يوليو الفائت، الذي اتخذ بدوره قرارات مناوئة لها، على غرار طرد السفير الفرنسي ووقف توريد اليورانيوم إليها.

وفي إطار ما يمكن تسميته “كرة الثلج”، وقع انقلاب جديد في الجابون، في 30 أغسطس الجاري، أشارت اتجاهات عديدة إلى أنه يوجه رسالة جديدة بتراجع النفوذ الفرنسي في المنطقة، في ظل العلاقة القوية التي تؤسسها باريس مع الرئيس علي بونجو.

تحرّكات موازية

لكن كان لافتاً أنه بالتوازي مع ذلك، بدأت فرنسا في تنشيط أدوارها في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما في بعض الدول وإزاء عدد من الملفات، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- الترويج للدور الفرنسي في مكافحة الإرهاب: كان لافتاً ارتفاع مستوى مشاركة القوات الفرنسية التي تعمل ضمن التحالف الدولي لمكافحة “داعش” في العراق، خلال شهر أغسطس الحالي، حيث أصدرت هيئة الأركان العامة للجيوش الفرنسية بياناً، في 29 أغسطس الجاري، جاء فيه أن “وحدة من الجنود الفرنسيين نفذت عملية استطلاع على مسافة نحو 100 كم شمال بغداد لدعم القوات العراقية، وقامت مجموعة من الإرهابيين المتحصنين بمهاجمة القوات العراقية، ورد الجنود الفرنسيون على الفور لدعم الشريك، وألحقت خسائر فادحة بالعدو”، مشيرة إلى أن هذه المواجهة أسفرت عن مقتل جندي فرنسي وإصابة أربعة آخرين، ليرتفع عدد قتلى القوات الفرنسية خلال هذا الشهر إلى ثلاثة جنود. وأكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، عقب العملية الأخيرة، على استمرار باريس في دعم بغداد في الحرب ضد الإرهاب.

2- محاولة حسم ملف الفراغ الرئاسي اللبناني: وقد بدا ذلك جلياً في كلمتي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووزيرة الخارجية كاترين كولونا، أمام مؤتمر “سفراء فرنسا حول العالم” الذي عقد في 28 أغسطس الحالي. ففي حين أكدت كولونا على أن “لبنان بلد مميز ولن تتخلى عنه فرنسا”، أشاد ماكرون بالجهود التي يبذلها وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان –الذي قام بتعيينه مبعوثاً خاصاً إلى لبنان– من أجل حلحلة الملفات الصعبة، وعلى رأسها أزمة الفراغ الرئاسي، منذ انتهاء ولاية الرئيس اللبناني السابق ميشال عون في 30 أكتوبر الماضي.

3- ممارسة ضغوط على إيران في ملف السجناء: وجّه الرئيس ماكرون انتقادات شديدة إلى إيران، خلال مؤتمر “سفراء فرنسا حول العالم”، سواء بسبب الخلافات العالقة حول البرنامج النووي والدور الإقليمي، أو بسبب القضايا التي تؤثر على العلاقات الثنائية، حيث قال إن السياسة الإيرانية تزعزع الاستقرار في المنطقة، ولا سيما في لبنان، وطالب طهران بالإفراج عن أربعة فرنسيين محتجزين لديها لأسباب مختلفة.

4- الاهتمام بذكرى هجوم “الغوطة”: أبدت باريس اهتماماً خاصاً بحلول الذكرى العاشرة للهجوم الكيماوي الذي وقع في الغوطة الشرقية لريف دمشق، في 21 أغسطس 2013، حيث أصدرت الخارجية الفرنسية، في اليوم التالي، بياناً وجّهت فيه اتهاماً مباشراً إلى الحكومة السورية بالمسئولية عن الهجوم، وأعلنت “التزام فرنسا بضمان عدم إفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب”. وقد دفع ذلك دمشق إلى إدانة هذا البيان –الذي توازى مع بيان أمريكي مماثل- الذي حمل في رؤيتها ادعاءات باطلة، وأكدت الخارجية السورية أنه “من السخرية أن تدعي فرنسا والولايات المتحدة استخدام أسلحة من هذا النوع في سوريا، في الوقت الذي قامت فيه الكثير من البلدان باستخدام هذه الأسلحة ضد شعوب آسيا وأفريقيا”.

عقبات عديدة

رغم ذلك، يبدو أن الجهود التي تبذلها فرنسا من أجل تعزيز دورها في بعض الملفات الإقليمية في الشرق الأوسط تواجه عقبات عديدة يمكن تناولها على النحو التالي:

1- عدم نضوج التسويات المطروحة: ويبدو ذلك جلياً في حالة ملف السجناء مع إيران. إذ يبدو أن فرنسا حرصت على تصعيد الملف من جديد بعد أن أبرمت إيران والولايات المتحدة الأمريكية صفقة لتبادل السجناء، في 10 أغسطس الجاري، تقضي بالإفراج عن خمسة سجناء أمريكيين لدى طهران مقابل إطلاق واشنطن سراح سجناء إيرانيين متهمين بمحاولة انتهاك العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران والإفراج عن 6 مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية.

وقد استغرقت هذه الصفقة فترة طويلة، بل يمكن القول إنها لم تكتمل بعد، حيث ما زالت الإجراءات اللوجستية الخاصة بها تمضي قدماً ويتوقع أن تنتهي في غضون شهرين كما أشار المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني. ويعني ذلك أن حسم هكذا ملف يرتبط بصفة دائمة بالوصول إلى صفقات أو تفاهمات مع إيران، وهو ما يبدو واضحاً في الاتصالات التي تجري بين طهران وواشنطن سواء حول الاتفاق النووي أو حول الحضور الإقليمي الإيراني في المنطقة. هذا النهج يبدو غائباً في حالة فرنسا، خاصة أن الخلافات العالقة مع طهران تبدو متعددة، سواء بسبب الاتفاق النووي، أو بسبب الدور الإيراني في لبنان، أو بسبب الدعم الإيراني لروسيا في الحرب الأوكرانية.

2- تصاعد أدوار القوى الأخرى: وهو ما يبدو واضحاً في الحالة السورية، حيث لا تمثل فرنسا رقماً صعباً في المشهد السوري، في ظل وجود أطراف أخرى لها مصالح ووجود على الأرض، مثل روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وإيران وتركيا. ويمكن القول إن هذه القوى الأربع هي التي تمتلك القدرة دون غيرها على الانخراط في صياغة الترتيبات السياسية والأمنية التي يمكن أن يجري العمل وفقاً لها داخل سوريا خلال المرحلة القادمة، وهي ترتيبات قد لا تتوافق بالضرورة مع مصالح وحسابات فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية.

3- تقاطع مصالح الأطراف المعنية: رغم أن باريس أعلنت أن هناك “مؤشرات انفراجة” في الملف اللبناني، حيث قد يتم التوصل إلى تسوية لأزمة الفراغ الرئاسي التي يواجهها في سبتمبر القادم، في ظل الجولات التي يقوم بها المبعوث الفرنسي إلى لبنان جان إيف لودريان، حيث سيقوم بزيارة ثالثة في الثُلث الأول من الشهر المقبل؛ إلا أن هذا الاحتمال ما زال يتسم بالغموض، في ظل تقاطع مصالح الأطراف المعنية في الداخل، ولا سيما حزب الله وحلفاءه من جهة والقوى المناوئة له من جهة أخرى، والتي انعكست في التوتر والتصعيد الذي اندلع في منطقة الكحالة التي تقع في جبل لبنان، في 9 أغسطس الجاري، والذي سبقته الاشتباكات التي وقعت في مخيم عين الحلوة بعدة أيام.

مراجعة سياسية

في ضوء ذلك، يمكن القول إن فرنسا ربما تبدو مقبلة على عملية مراجعة للسياسة الخارجية التي تتبناها، سواء إزاء ملفات المنطقة، أو تجاه الأزمات التي تواجه وجودها في منطقة الساحل تحديداً. وربما يمكن القول إن مؤشرات ذلك لا تكمن في التظاهرات والإجراءات المناهضة للوجود الفرنسي في منطقة الساحل، وإنما في الانتقادات التي باتت توجهها قوى في الداخل الفرنسي نفسه، وبدت جلية في الرسالة التي وجهها 100 عضو عن حزب “الجمهوريين” في مجلس الشيوخ الفرنسي إلى الرئيس ماكرون، في 8 أغسطس الجاري، والذين أكدوا فيها أن عملية “برخان” قد باءت بالفشل ودعوا إلى إجراء مراجعة للسياسة الفرنسية في أفريقيا، وهو ما يعني في النهاية أن السياسة الخارجية الفرنسية باتت أمام اختبار صعب خلال المرحلة الحالية.