تزامن استعداد تركيا لعقد انتخابات رئاسية وبرلمانية في منتصف العام المقبل، مع تصاعد الحضور السياسي للمعارضة التركية، وتوسيع مساحات التنسيق السياسي فيما بينها، ويظهر ذلك في الاجتماع المقرر له في فبراير الجاري بين زعماء حزب الشعب الجمهوري، والحزب الصالح، وحزب السعادة، والحزب الديمقراطي، بالإضافة إلى حزب المستقبل وحزب الديمقراطية والتقدم “ديفا”. وقد شهدت أحزاب المعارضة تنسيقاً فيما بينها يعد الأهم والأوسع من نوعه منذ صعود حزب العدالة والتنمية للسلطة في عام 2002.
وتثير المعطيات الجديدة على الساحة التركية تساؤلاً حول مدى قدرة أحزاب المعارضة ليس فقط على إزعاج تحركات الرئيس أردوغان، ومناهضة سياساته؛ بل في إمكانية طرح نفسها كبديل للحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر لها في عام 2023. وفي هذا الإطار، سيتم تناول مظاهر صعود المعارضة في الشارع التركي، الأمر الذي حولها إلى أحد مصادر التهديد للنظام الحاكم، الذي فقد جانباً معتبراً من رصيده التقليدي بسبب تفاقم حدة الأزمة المالية، وفشل الإجراءات التقليدية في التحايل على التدهور الحادث في الأوضاع المعيشية.
صعود الشعبية
بدأ صعود المعارضة في الشارع التركي منذ عام 2018 عشية التوافق على تشكيل التحالف الانتخابي المعروف بــ”تحالف الأمة”، واستطاع مرشحه محرم أنجة -آنذاك- منافسة الرئيس التركي، وحصوله على أكثر من 30% من مجموع الأصوات. وواصلت المعارضة التنسيق فيما بينها خلال الانتخابات البلدية في مارس 2019، وتمكنت من الفوز بعدد واسع من البلديات التركية الكبرى، وفي الصدارة منها إسطنبول وأنقرة وأزمير وأنطاكيا.
وعلى صعيد ذي شأن، تمكّنت المعارضة منذ عام 2020 من توسيع مساحات التنسيق فيما بينها، بعد تعزيز جسور التواصل مع الأحزاب المنشقة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، وبخاصة حزب “المستقبل” الذي أسسه أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء السابق في ديسمبر 2019، وحزب “الديمقراطية والتقدم” الذي أطلقه علي بابا جان في مارس 2020.
وبغض النظر عن هذه التطورات التي وفرت بيئة خصبة لتعزيز بناء التفاهمات السياسية بين قوى المعارضة في تركيا، إلا أنه لا يمكن إنكار أن الأزمات السياسية والاقتصادية التي شهدتها تركيا طوال السنوات التي خلت، كانت الدافع وراء الاستياء من الحزب الحاكم، والاندفاع نحو البحث عن البدائل السياسية أو الانشقاق عن حزب العدالة والتنمية، وتكوين هياكل حزبية مغايرة، وهو ما وفر بيئة حاضنة لصعود المعارضة التركية. كما كان الدافع وراء صعود المعارضة التركية خلال الفترة الماضية مجموعة متنوعة من العوامل، منها عدم تورط قادتها في اتهامات بالفساد مقارنة باتهام عناصر نافذة داخل الحزب الحاكم أو قربية منه بالفساد، وهو ما تجلى في التصريحات التي أطلقها زعيم المافيا التركي سادات بكر في مايو الماضي، واتهم فيها وزير الداخلية التركي سليمان صويلو بالحصول على رشاوى مالية، كما اتهم عدداً من المحسوبين على الحزب الحاكم، وفي الصدارة منهم نجل آخر رئيس وزراء في تركيا بن علي يلدريم؛ حيث زعم بكر أن “إركان يلدريم” ذهب في عام 2020 إلى فنزويلا من أجل مناقشة مسار المخدرات بين البلدين.
عوامل متعددة
يمكن الإشارة إلى عدد من العوامل التي ساهمت في صعود المعارضة التركية إلى صدارة المشهد، والدفع بها كمكون رئيسي، وهو ما يمكن بيانه على النحو الآتي:
1- صلابة التنسيق البيني الجيد: نجحت المعارضة التركية طوال السنوات الأربع التي خلت في تعزيز مساحات التنسيق والتفاهمات السياسية فيما بينها، على نحو عكسه الاتفاق على عقد ما سُمي “قمة المعارضة” في منتصف فبراير الجاري، لمناقشة مشاكل تركيا الرئيسية، وخاصة الاقتصاد، ومسؤوليات المعارضة والتحالف بينها، والعملية الانتخابية وخرائط الطريق ما قبل الانتخابات وبعدها.
ولم يكن هذا التوافق هو الأول من نوعه، ففي عام 2019 تمكن تحالف المعارضة “الأمة” من إلحاق الهزيمة بحزب العدالة والتنمية خلال الانتخابات البلدية داخل عدد من البلديات الكبرى. كما اتفقت أحزاب المعارضة التركية في 26 يناير الماضي على توسيع تحالفها المعروف باسم “تحالف الأمة”، ليضم إلى جانب أحزاب “الشعب الجمهوري” و”الجيد” و”السعادة” و”الديمقراطي القومي”، أحزاباً أخرى في مقدمتها حزبا “المستقبل” و”الديمقراطية والتقدم”.
كما تجدر الإشارة إلى أن تحالفات المعارضة نجحت في تجاوز مرحلة “التلاقي الظرفي” الذي يبرز إبان المحطات الانتخابية ثم تختفي بعد ذلك، فقد تمكنت من بناء توافق عام حول عدد من القضايا السياسية الرئيسية، منها ضرورة الاستمرار في العمل لتحويل البلاد مرة أخرى لجهة النظام البرلماني، وبناء نظام انتخابي جديد، إضافة إلى التفكير المشترك لوضع أطر اقتصادية جديدة للخروج من الأزمة الاقتصادية التي أدخلت البلاد في دوامة من تدهور الأوضاع المعيشية.
2- تجاوز الانتماءات الفكرية والأيديولوجية: على الرغم من توافق أحزاب وشخصيات المعارضة التركية بالأساس على معارضة النظام الرئاسي الحاكم، وأهمية العودة إلى النظام البرلماني؛ إلا أن المعارضة التركية تمكنت من التوافق مؤخراً على عدد واسع من القضايا السياسية والاجتماعية، بعدما تمكنت من تجاوز التخندق خلف أفكارها الأيديولوجية، وظهر ذلك في دعوة حزب الشعب الجمهوري وحليفه حزب الخير القومي إلى أهمية حل سلمي للقضية الكردية جنوب شرق تركيا. وفي تطور لافت أعلن حزب الشعب الجمهوري، في 5 يونيو الماضي، عن تأسيس لجنة حزبية خاصة، تحت مُسمى “طاولة جنوب وشرق البلاد”، لإيجاد حلول بشأن تلك المنطقة، وعلى رأسها المسألة الكُردية. واكتسبت هذه الخطوة أهمية كبيرة، كونها صدرت عن الحزب الذي يعتبر نفسه وريثاً لأفكار مؤسس الجمهورية العلمانية “كمال أتاتورك” الذي كان يرفض الاعتراف بحقوق الأكراد. كما كان لافتاً معارضة حزب السعادة الإسلامي لجانب معتبر من سياسات حزب العدالة والتنمية حيال جماعات الإسلام السياسي في المنطقة العربية.
وقد نجح تحالف المعارضة التركية في القفز على الخلافات الأيديولوجية الحادة التي كانت قائمة بين أحزابه، والتأكيد فقط على أهمية التوجه صوب نظام سياسي يحوي اشتراطات محددة تحقق النزاهة في الحكم والعدل بين مكونات المجتمع. ويشار إلى أن تحالفات المعارضة التركية الراهنة، لم يعد بينها خلافات عميقة على التصورات الاقتصادية والسياسية للمشهد التركي، بل تجمعها تصورات قريبة ورؤية متكاملة تتعلق بأهمية ترسيخ دولة الدستور والقانون.
3- تقديم نموذج ناجح في إدارة البلديات: تمكن رؤساء البلديات التركية المحسوبون على المعارضة من تحقيق إنجازات كبيرة في إدارتهم لشؤون هذه البلديات، وهو الأمر الذي رسخ من قاعدتهم الشعبية من جهة، وأثبت قدرة بعضهم، وبخاصة أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، ومنصور يافاش رئيس بلدية أنقرة على حكم تركيا من جهة أخرى. وبحسب استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسات تركية مختلفة منذ مطلع العام الجاري، يتصدر إمام أوغلو قائمة أنجح رؤساء البلديات في تركيا، يليه منصور يافاش من حزب الشعب الجمهوري في المرتبة الثالثة، وكان 4 مراكز من أول 5 مراكز في تصنيف الأفضل في إدارة البلديات التركية من نصيب حزب الشعب الجمهوري.
كما أشارت العديد من استطلاعات الرأي إلى أن إمام أوغلو يبقى دائماً منافساً قوياً لأردوغان على رئاسة الجمهورية، خاصة أن قصة صعوده أشبه بصعود الرئيس التركي في تسعينيات القرن الماضي عندما تولى رئاسة بلدية إسطنبول، وحقق العديد من الإنجازات التي ساهمت في صعوده إلى صدارة المشهد التركي. وهنا، يمكن فهم أبعاد اتهام الرئيس التركي في 3 يناير الماضي رئيس بلدية إسطنبول إمام أوغلو، بفصل 15 ألفاً من العاملين بالبلدية بدعوى انتمائهم إلى الحزب الحاكم، وتعيين 45 ألفاً من الإرهابيين، فضلاً عن تحريض أردوغان وزارة الداخلية التركية لتكوين لجنة للتفتيش في ذلك الأمر.
وبالتوازي مع ذلك، أظهر استطلاع للرأي تحت عنوان “نبض تركيا 2022” أجرته شركة متروبول ومقرها أنقرة، خلال الفترة من 8 إلى 12 يناير 2021 في 28 مقاطعة تركية، أن أحزاب المعارضة ستتفوق على الحزب الحاكم بفارق كبير في حال إجراء انتخابات عامة.
4- بناء جسور الثقة مع الأكراد: في سياق توسيع وتعزيز العلاقة بين مكونات المعارضة التركية، حرص تحالف الأمة على توطيد العلاقة مع الكتلة الكردية، وكشف عن ذلك دعوة حزب الشعب الجمهوري لأهمية معالجة القضية الكردية، وسبق هذه الدعوة التحرك الاستثنائي لحزب الشعب الجمهوري في سبتمبر الماضي تجاه أكراد الإقليم، حيث زار وفد من الحزب مدينة أربيل عاصمة إقليم كُردستان العراق، وهو الأمر الذي يكشف عن رغبة تحالف المعارضة في توسيع التنسيق مع الأكراد.
في المقابل، ثمة مؤشرات أخرى كاشفة عن حرص المعارضة التركية على دفع العلاقات قدماً مع الأكراد، والاستفادة من تصاعد حالة العنف التي يمارسها نظام أردوغان ضد حزب الشعوب الديمقراطي (الجناح السياسي للأكراد)، وكان بارزاً هنا تصريحات كمال كليجدار أوغلو في 2 نوفمبر الماضي، التي دافع خلالها عن الزعيم الكردي صلاح الدين دميرطاش، وتأكيده على أنه معتقل ظلماً منذ عام 2016. وسبق هذه التصريحات، تأكيد علي بابا جان -رئيس حزب الديمقراطية والتقدم- المعارض عن استمرار الرئيس التركي في تأجيج القضية الكردية لدعم وجوده، وأضاف في تصريحات له في سبتمبر الماضي: “عنوان حل الأزمة الكردية هو السياسة الشرعية الديمقراطية، لا تبحثوا عن الحل في مكان آخر”.
برنامج عملي
ختاماً، يمكن القول إن المعطيات السابقة تكشف أن المعارضة التركية قد تستمر في تحقيق اختراق المشهد التركي من خلال توظيف تراجع شعبية العدالة والتنمية، وتصاعد حدة الأزمة المالية، فضلاً عن عدم قدرة الرئيس التركي على معالجة حالة الاستقطاب السياسي التي تحولت إلى سمة رئيسية للمشهد العام في البلاد. غير أن جهود المعارضة التي يمكن أن تشكل تحدياً للرئيس التركي لا تزال بحاجة إلى وضع برنامج عملي قابل للتحقق على الأرض لإنقاذ البلاد من الأزمات التي تعانيها، فالتنسيق الشكلي، ووحدة الخطاب حيال القضايا القانونية والسياسية على أهميته، لا يكفي ولا يضمن للخصوم الوصول إلى صدارة المشهد أو على الأقل البقاء المريح ضمن مكوناته.