محفزات عديدة:
هل تُساهم الأزمة السياسية في الحدّ من النفوذ الإيراني بالعراق؟

محفزات عديدة:

هل تُساهم الأزمة السياسية في الحدّ من النفوذ الإيراني بالعراق؟



ربما تؤدي الأزمة الحالية في العراق، بسبب تصاعد حدة المواجهات بين التيار الصدري وقوى الإطار التنسيقي، إلى تراجع النفوذ الإيراني في العراق على المدى الطويل، وهو ما تدعمه محفزات عديدة، يتمثل أبرزها في استمرار انعكاسات اغتيال قائد فيلق القدس السابق التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، وإصرار الصدر على تبني سياسات شعبوية، ورغبة الصدر في الانفراد بالسلطة، ودعم الاتجاه نحو تطوير العلاقات مع الدول العربية.

رغم الزيارات المكثّفة التي يقوم بها قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني إلى العراق، والتي كان آخرها في 27 يوليو الفائت لمحاولة تفكيك حالة الجمود السياسي التي تخيم على العملية السياسية العراقية؛ إلا أن هذه الجهود لم تكن غير مؤثرة فقط، بل وربما تؤدي تحركات زعيم التيار الصدري خلال الفترة الأخيرة إلى تصعيد مستوى الخلافات مع طهران.

حيث يمكن اعتبار تحركات الصدر بدخول المنطقة الخضراء في بغداد، واقتحام مجلس النواب، وترديد شعارات مناهضة للإطار التنسيقي الشيعي وإيران، نقطة تحول يمكن أن تؤدي لتقليص النفوذ الإيراني المنخفض بالفعل في العراق؛ حيث اتضح أن مقتدى الصدر يرغب في إيجاد حالة من الفوضى في الشوارع، ولن يتردد في القيام بأي خطوة لإفشال جهود الإطار التنسيقي فيما يتعلق باختيار رئيس الوزراء القادم، ولا سيما بعد ترشيح قوى الإطار لمحمد شياع السوداني لهذا المنصب.

عوامل مترابطة

وتتضح -في هذا السياق- مجموعة من المحفزات التي يمكن أن تساهم في خفض النفوذ الإيراني بالعراق والتي تتمثل في:

1- تصاعد حدة التنافس بين التيار الصدري والإطار التنسيقي: رغم عدول رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر (الذي حصل تياره على أغلبية عدد الأصوات خلال الانتخابات البرلمانية التي عُقدت في أكتوبر الفائت، قبل أن يستقيل نوابه)، وإجرائه اتصالاً هاتفياً مع رئيس “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي في 10 مارس 2022؛ إلا أنه كانت وما زالت هناك بعض القضايا الخلافية بين التيار والإطار التنسيقي الذي ينتمي له المالكي، بما يتمثل في التوافق حول شخص رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، فضلاً عن بعض الخلافات الشخصية السابقة بين الزعيمين. ففي حين يرغب الصدر في الانفراد بالسيطرة على اختيار رئيس الوزراء العراقي القادم، باعتبار أنه الحائز على العدد الأكبر من الأصوات؛ يرى قادة الإطار التنسقي أنه يجب أن يكون شخصية توافقية تأتي عن طريق الفوز بالنسبة الأكبر من التصويت داخل البرلمان.

وأدت الأحداث اللاحقة على ذلك والمتمثلة في تسريب بعض التسجيلات الصوتية لنوري المالكي والتي وصف خلالها مقتدى الصدر بـ”الجاهل”، وتطرق إلى الهجمات التي عُرفت بـ”صولة الفرسان”، والتي كانت عبارة عن حملة أمنية ممنهجة ضد أنصار التيار الصدري، مما أسفر عن الزج بهم في نهاية المطاف داخل السجون أو الهروب إلى خارج البلاد؛ إلى تصاعد حدة الأزمة بين الطرفين. وعليه، من المتوقع أن يؤدي تأجيج الخلافات بين الطرفين اللذين ينتميان إلى المذهب الشيعي الذي تدعمه إيران في العراق إلى الحد من نفوذ هذه الأخيرة في إحدى أهم دول ما يُسمى “محور المقاومة”، والتي تعد جسراً للتواصل بين إيران والدول الأخرى من سوريا إلى لبنان.

2- السياسات الشعبوية للتيار الصدري: بينما كان مقتدى الصدر ذات يوم أقرب حليف لإيران في العراق، إلا أنه ذهب على مدى السنوات الماضية إلى النأي بنفسه عن إيران والجماعات العراقية المدعومة منها، إلى درجة أنه أصبح فعلياً أحد أشد التحديات التي تواجه مصالح إيران طويلة الأجل هناك؛ حيث استغل الصدر موجة القومية العراقية وتزايد المشاعر المعادية لإيران في العراق لتقديم نفسه كشخصية وطنية مستقلة.

فلم تمثّل الانتخابات الأخيرة زيادة جوهرية في قاعدة أصوات الصدر العددية، بل إن قدرته القوية على التعبئة هي التي جلبت له النجاح. وبالاعتماد على ذلك، يتمثل القلق الإيراني من تزايد شعبية الصدر في أنه أحد أبرز الداعين لحل الجماعات المسلحة المدعومة من إيران ودمجها في الهياكل الرسمية للدولة، بما يتضمن إخضاع قوات الحشد الشعبي للسيطرة الكاملة للدولة وإبعادها عن السياسة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يساعد في تقليص النفوذ الإيراني بالعراق إلى حد كبير.

3- رغبة الصدر في الانفراد بالسيطرة: بغض النظر عن انعدام ثقة طهران المتزايد تجاه الصدر، لا تريد إيران أن ترى فرداً واحداً أو فصيلاً واحداً -سواء كان الصدر أو أي شخص آخر- يسيطر على الساحة السياسية الشيعية في العراق. فعلى مدى العقدين الماضيين، لطالما نظرت إيران إلى الخلافات بين الساسة العراقيين على أنها مساحة للمناورة وتأمين مصالحها، ولا سيما من خلال لعب دور الوسيط أو حتى المنسق فيما بينهم، وهو ما يتعارض مع مصلحة الصدر الذي يفضل أن يكون له القرار الراجح بشأن العملية السياسية في العراق.

لذا، تقوم استراتيجية إيران في العراق هذه الأيام على ركيزتين أساسيتين تتمثلان في منع تشكيل حكومة أغلبية سياسية، والحفاظ على وحدة الجماعات السياسية التابعة لها والتي تعرف بـ”الإطار التنسيقي”، والابتعاد عن اللجوء للعنف. فقد تكون حسابات إيران أنه في الوقت الذي تكون فيه الجماعات الشيعية في موقف ضعيف بالفعل بسبب أدائها الانتخابي، فإن اختيار المواجهة المسلحة مع الحكومة لن يؤدي إلا إلى مزيد من نزع الشرعية عنها. كما يمكن أن يصب ذلك في مصلحة الصدر وشخصيات أخرى تريد كبح جماح المليشيات الشيعية التابعة لإيران في العراق.

4- جاذبية العودة إلى المحيط العربي: بالتوازي مع رغبة الصدر في إحداث بعض التوازن بين النفوذ الإيراني وبعض الدول الأخرى في المنطقة، أو بالأحرى تطوير العلاقات مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة؛ فإن هناك رغبة إقليمية لتقليص الدور الإيراني المتزايد في دول الأزمات. ويأتي ذلك في ظل سعي بعض الدول لرفع مستوى استثماراتها في العراق؛ حيث وقّعت المملكة العربية السعودية خمس اتفاقيات متنوعة مع العراق في إبريل من العام الماضي، تستهدف تأسيس صندوق استثمار سعودي عراقي مشترك برأسمال 3 مليارات دولار ينشط في مجالات عدة، ولا سيما فيما يتعلق بالطاقة المتجددة والربط الكهربائي.

وعلى العكس من ذلك، فشلت إيران ليس فقط في زيادة معدل استثماراتها بالعراق، بل وتمخض عن التداعيات السلبية الناتجة عن العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران انخفاض حجم التجارة مع العراق؛ حيث أشارت بعض التقديرات إلى أن متوسط معدل التبادل التجاري مع العراق بلغ خلال السنوات الثلاث الأخيرة 10 مليارات دولار، بما يعادل 8% فقط من حجم التجارة الخارجية للعراق، وهو ما سعت على إثره بعض الدول الأخرى مثل تركيا والمملكة العربية السعودية إلى احتواء هذه الفجوة.

5- تأثير غياب قائد فيلق القدس السابق “قاسم سليماني”: كان لاغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ومهندس العمليات الإيرانية في دول الجوار قاسم سليماني، عواقب وخيمة على نفوذ إيران في بعض الدول التي تحظى فيها إيران بنفوذ كبير مثل العراق. فقد كانت له “كاريزما” خاصة وقدرة على التوفيق بين جميع الطوائف والأحزاب والتيارات السياسية في العراق، سواء فيما يتعلق بالأكراد أو الشيعة والسنة.

وعلاوةً على ذلك، تكشف بعض التقديرات عن أن غياب سليماني أدى لاتساع الفجوة بين زعيم التيار الصدري وإيران. ومنذ ذلك الحين، يحاول الصدر أن يتولى دور محور السياسة الشيعية في العراق، والذي كان مخصصاً لفترة طويلة لسليماني أو للجمهورية الإسلامية على نطاق أوسع، في حين يفتقر خلفه إسماعيل قاآني إلى الكاريزما وقدرات بناء الإجماع التي اشتُهر بها سلفه. ولهذا فإن غياب سليماني يمكن أن يؤدي إلى استمرار الخلافات وتصعيدها داخل العراق، وبالتالي تقليص نفوذ إيران في هذا البلد.

تصعيد الفوضى

ختاماً، من المتوقع أن يُحاول مقتدى الصدر تصعيد حالة الفوضى السياسية في العراق خلال الفترة القليلة القادمة حتى يتمكن من الوصول إلى أهدافه المتمثلة في السيطرة على اختيار مرشح رئيس الوزراء، وفرض أجندة السياسة الخارجية الخاصة به والهادفة لتطوير العلاقات مع الدول العربية وواشنطن، الأمر الذي من شأنه أن يحد من النفوذ الإيراني بشكل تدريجي.