كثّفت روسيا من عملياتها العسكرية لاستهداف مجموعات تنظيم “داعش” في البادية السورية، بصورة ملحوظة خلال الأسبوع الماضي على وجه التحديد، خاصة عقب العملية التي نفذها التنظيم لاستهداف قوات الجيش السوري، في 11 أغسطس الجاري، والتي أسفرت عن مقتل 20 جندياً وإصابة 10 آخرين.
وبالتوازي مع ذلك، اتجهت روسيا إلى شن مزيد من عمليات القصف على مواقع يشتبه في أنها تمركزات لتنظيم “داعش” في منطقة البادية، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول حدود فاعلية الانخراط العسكري الروسي على مستوى تحجيم النشاط العملياتي للتنظيم على مدى فترة زمنية طويلة.
انخراط متنوع
اعتمدت القوات الروسية المتمركزة في سوريا على تنويع عملياتها لمواجهة النشاط المكثف لمجموعات تنظيم “داعش” في البادية السورية، إذ نفذت تلك المجموعات سلسلة من العمليات بعضها لم تعلن عنه رسمياً، هذا بخلاف الهجوم الأبرز باستهداف قوات الجيش السوري. ويمكن الإشارة إلى طبيعة الانخراط العملياتي الروسي ضد “داعش” وذلك على النحو التالي:
1- تعدد عمليات القصف على مواقع “داعش”: رغم غياب البيانات الرسمية لكشف طبيعة العمليات التي تنفذها القوات الروسية بسوريا ضد التنظيم، إلا أنه بمتابعة بعض تقارير وسائل الإعلام الروسية، يتضح أن القوات الروسية لجأت إلى عمليات قصف بصواريخ دقيقة، انطلقت من البوارج قبالة السواحل السورية، لاستهداف موقع بين باديتي حمص وحماة.
ولا يعبر ذلك عن توجه جديد تتبناه روسيا التي سبق أن لجأت إلى ذلك في الفترة الماضية، إلا أن قصف موقع تابع لـ”داعش” في منطقة البادية يثير علامات استفهام حول اللجوء إلى إطلاق تلك الصواريخ، رغم الاعتماد بشكل تقليدي في عمليات القصف على الطائرات الحربية، والتي نفذت سلسلة من الضربات الجوية بعد الهجوم الذي استهدف قوات الجيش السوري.
2- المشاركة في عمليات تمشيط موسعة: لم يتوقف الانخراط الروسي في العمليات ضد “داعش” على عمليات القصف، وإنما امتد إلى المشاركة في التمشيط الذي تنفذه وحدات من الجيش السوري، لملاحقة عناصر التنظيم الإرهابي.
وقد بدا لافتاً أن عمليات التمشيط التي نفذتها قوات الجيش السوري، بمشاركة القوات الروسية، لم تكن محدودة، وإنما كانت موسعة، وقامت بها الفرقة 17 والفرقة 18 ضمن قوات النظام، وبمشاركة المدفعية من قبل الفرقة 11، وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي أشار إلى مشاركة مليشيات مسلحة موالية للنظام السوري في تلك العمليات.
معضلة موسكو
رغم كثافة الانخراط الروسي لمواجهة تنظيم “داعش” عقب الهجوم على قوات الجيش السوري، إلا أن ذلك لا ينفي المعضلة الروسية في سوريا، لجهة مواجهة التنظيم في منطقة البادية، وتتمثل أبرز ملامحها في:
1- غياب الضربات الاستباقية ضد “داعش”: يتسم النهج العملياتي للقوات الروسية في سوريا، في مواجهة “داعش”، بأنه رد فعل، إذ يرتبط الانخراط العسكري المكثف لملاحقة عناصر “داعش” واستهداف المواقع التي يشتبه في أنها مراكز للتنظيم في منطقة البادية تحديداً، بتكثيف “داعش” عملياته.
ويعني ذلك أن القوات الروسية لا تتجه إلى تكثيف العمليات العسكرية ضد “داعش” إلا عقب عمليات التنظيم البارزة، وتحديداً لاستهداف قوات الجيش السوري، مقابل انخراط أقل حال التوسع في استهداف المدنيين.
وقد ارتبط التحول الأبرز في الانخراط العسكري الروسي ضد “داعش” بسياقات الحرب الروسية-الأوكرانية، إذ توقفت الضربات الجوية الروسية في منطقة البادية، لانشغال روسيا بإدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، خلال الأشهر الأولى من الحرب، قبل العودة إلى تنفيذ الضربات الجوية ولكن بمعدلات أقل، وبشكل متقطع على فترات. وبشكلٍ عام، فإن النهج الروسي لا يعكس الرغبة أو القدرة على توجيه ضربات استباقية ضد تنظيم “داعش”.
2- محدودية الدور الاستخباراتي في البادية: يبدو أن القوات الروسية، إلى جانب الجيش السوري، والمليشيات الإيرانية الموالية للنظام السوري، تواجه أزمة في التعامل مع هيكلة تنظيم “داعش”، التي فرضتها ظروف الواقع الميداني عقب عام 2019، بالاعتماد على مجموعات صغيرة في النشاط العملياتي، تجنباً لاستهداف تجمعات كبيرة للتنظيم، تتعرض للانكشاف بفعل عمليات الرصد الجوي، سواء لروسيا، أو الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود قوات التحالف الدولي لمواجهة “داعش” في سوريا.
ويتضح ذلك من خلال طبيعة العمليات التي ينفذها التنظيم، والتي تعتمد على عنصر المفاجأة لاستهداف قوات الجيش بأنماط تقليدية، في ضوء استجابة محدودة لمواجهة تلك العمليات، إضافة إلى عدم بروز الدور الاستخباراتي في رصد تحركات عناصر التنظيم، التي يتوقع أنها متغيرة بشكل مستمر منعاً لتعقب تلك المجموعات.
في المقابل، فإن التحالف الدولي لمواجهة “داعش” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، اتجه منذ العام الماضي، إلى تنفيذ عمليات نوعية ضد التنظيم، لاستهداف قياداته والعناصر البارزة المؤثرة، في محاولة لتحجيم نشاطه العملياتي.
3- الأبعاد الدعائية في العمليات الروسية: بالنظر إلى هيكلة تنظيم “داعش”، واعتماد روسيا بشكل رئيسي على عمليات القصف الجوي، يثار تساؤل رئيسي حول حدود فاعلية القصف الجوي ضد عناصر التنظيم، من دون إغفال تأثير عمليات القصف على إجبار التنظيم على خفض حدة وكثافة العمليات أثناء القصف الجوي.
ولكن يبدو لافتاً في هذا الإطار أن التركيز بشكل رئيسي على عمليات القصف الجوي غير فعال، في ظل تقسيم عناصر التنظيم إلى مجموعات صغيرة، يمكنها أن تتفرق خلال تلك العمليات والاحتماء في أكثر من اتجاه في نطاق منطقة البادية الوعرة مترامية الأطراف، وهو ما يشير إلى الأبعاد الدعائية لعمليات القصف الجوي الروسي، خاصة وأنها لم تقض على وجود تنظيم “داعش” في منطقة البادية رغم استمرارها خلال السنوات القليلة الماضية، حيث أنها قد تؤدي إلى تحجيم النشاط لفترة زمنية قصيرة.
4- توجيه القصف شمال غربي سوريا: في ضوء عدم بروز الدور الاستخباراتي لروسيا في منطقة البادية لملاحقة “داعش”، يتضح أن الأولى تتوسع في عمليات القصف الجوي، لتشمل مواقع وتمركزات لفصائل مسلحة في الشمال السوري، وهي مناطق لا تخضع لسيطرة الجيش السوري.
ورغم عدم تسجيل ضربات جوية في منطقة البادية لاستهداف تنظيم “داعش” خلال الأيام القليلة الماضية، إلا أن تقارير إعلامية محلية تشير إلى تنفيذ الطيران الروسي عمليات قصف لاستهداف مواقع في شمال غربي سوريا.
5- تعدد نطاقات التهديد جغرافياً: لا يتوقف تهديد تنظيم “داعش” بالنسبة لروسيا والجيش السوري، على منطقة البادية فقط، وإنما يمتد إلى ريف دمشق، الذي شهد عمليتين لـ”داعش” خلال إحياء ذكرى عاشوراء، وباتجاه جنوب البلاد، خاصة في ظل استمرار نشاط خلايا التنظيم، التي تستهدفعناصر الجيش السوري، حتى بعد المواجهات التي شهدتها مدينة جاسم في العام الماضي، والتي يعتقد أنها المواجهات التي شهدت مقتل زعيم التنظيم آنذاك أبي الحسن الهاشمي القرشي، في منتصف أكتوبر 2022.
ويمثل ذلك أحد التحديات التي تواجه روسيا، في ظل رعايتها لاتفاق التسوية بين النظام السوري وفصائل مسلحة تُصنف بالمعارضة في محافظة درعا، ولذلك تتحرك روسيا على مستوى ريف دمشق، خاصة مع تصاعد ظاهرة الاغتيالات منذ مطلع العام الجاري، وفقاً للمرصد السوري، بما دفع إلى تسيير دوريات أمنية روسية في بعض المناطق.
تأثير مؤقت
رغم أن العمليات العسكرية المكثفة التي تشنها القوات الروسية في سوريا تدفع إلى تحجيم النشاط العملياتي لتنظيم “داعش”، وتحديداً في منطقة البادية، إلا أنه تأثير مؤقت، في ظل عدم بروز استراتيجية واضحة للتعامل مع التهديد الذي يمثله تنظيم “داعش”، بسبب محاولات التنظيم للتكيف مع المتغيرات الميدانية التي طرأت على المشهد السوري، واستيعاب الضربات القوية التي تعرض لها في الأعوام الماضية، وأدت إلى فقدانه عدداً كبيراً من قادته وكوادره ومصادر تمويله.