خيار مطروح:
هل تُجري طهران وواشنطن حواراً مباشراً حول قضايا المنطقة؟

خيار مطروح:

هل تُجري طهران وواشنطن حواراً مباشراً حول قضايا المنطقة؟



بعد أن كانت إيران تعتبر أن إجراء حوار مباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية من “الخطوط الحمراء”، وأصرت على عقد ثماني جولات من المفاوضات في فيينا حول الاتفاق النووي مع مجموعة “4+1” بدون مشاركة مباشرة من جانب الأخيرة، بدأت في توجيه إشارات واضحة بأنها لم تعد تمانع في تبني هذا الخيار في حالة ما إذا تطلب الوصول إلى اتفاق جديد في فيينا إجراء هذا الحوار. وفي الواقع، فإن ذلك يستدعي بالضرورة إمكانية إجراء حوار مباشر أيضاً حول قضايا المنطقة، أو توسيع نطاق الحوار المحتمل حول الاتفاق النووي ليشمل تلك القضايا. ورغم أن إيران نفسها ربما تكون لديها رغبة في الانخراط في مثل هذا الحوار، إلا أنه يبدو خياراً مؤجلاً بالنسبة لها لحين استشراف ما سوف تؤول إليه المفاوضات في فيينا، وإنضاج توافق داخلي حوله، فضلاً عن محاولة إعادة تغيير توازنات القوى في بعض دول الأزمات بما يتوافق مع مصالحها وحساباتها في الوقت الحالي.

لم يكن الإعلان عن الوصول إلى الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة “5+1” في 14 يوليو 2015، سوى محصلة لجولات من المفاوضات السرية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، بدأت ربما قبل ذلك بنحو ست سنوات، حيث تخللتها فترات من التهدئة والتصعيد شهدت جهوداً للوصول إلى صفقات وفي الوقت نفسه إصراراً على رفع مستوى العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران آنذاك. وفي الوقت الحالي، ربما يتكرر السيناريو نفسه لكن بطريقة معاكسة، أي أن تمهد المفاوضات التي تجري في فيينا بين إيران ومجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة إلى مفاوضات ثنائية مباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. وهنا، فإن المسألة قد لا تنتهي عند الوصول إلى صفقة نووية تعزز من استمرار العمل بالاتفاق النووي وتنهي المأزق الحالي الذي قد يؤدي إلى انهيار المفاوضات وعودة أزمة البرنامج النووي مرة أخرى إلى مربعها الأول، وإنما ربما تمتد إلى مناقشة القضايا الخلافية الأخرى في المنطقة.

وربما ترى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أن ذلك يتوافق مع المصالح والحسابات الأمريكية في الوقت الحالي، باعتبار أن هذه المفاوضات “المحتملة” يمكن أن تساعد في “تأمين” الانسحاب الأمريكي من المنطقة، وهو ما يقابَل بتحفظ من جانب أطراف عديدة ترى أن النفوذ الذي تمتلكه إيران في دول الأزمات أدى إلى تهديد المصالح الأمريكية وتصاعد حدة تلك الأزمات وعرقلة الجهود التي بذلت للوصول إلى تسويات سياسية لها.

دوافع رئيسية

ورغم أن إيران لم تعد تستبعد هذا الاحتمال، بل ربما تستعد له مسبقاً، فإنها تبدو حريصة على إبقائه كخيار مؤجل في الوقت الحالي، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تقييم النتائج المحتملة لمفاوضات فيينا: شهدت الجولة الثامنة من المفاوضات التي تجري في فيينا تقدماً ملحوظاً، على نحو انعكس في قرار تعليقها والعودة إلى العواصم للحصول على “قرارات سياسية” بما يعني أنها وصلت إلى “المرحلة الأخيرة”، لكن ذلك لا ينفي أنه ما زالت هناك خلافات قد لا تبدو ثانوية، بدليل الرسائل المتبادلة بين الأطراف المشاركة، التي لا تخلو من تهديدات. فقد وجهت الولايات المتحدة الأمريكية تحذيرات مباشرة لإيران في 31 يناير الفائت، بأن “المفاوضات باتت في المرحلة النهائية”، وأنه لم يعد هناك “سوى بضع أسابيع بعدد أصابع اليد حتى تبقى الفوائد المرجوة من الخطة (الاتفاق النووي) والمفاوضات”. وردت إيران بدورها بـ”ضرورة الاستجابة لمطالبها بشأن رفع العقوبات والحصول على ضمانات بدلاً من تحديد تواريخ مصطنعة”. هنا، يمكن القول إن إيران ما زالت ترى أن الاحتمالات كلها ما زالت مطروحة رغم أن اعتبارات عديدة بدأت في تعزيز احتمال الوصول إلى صفقة، وهو ما سوف يدفعها إلى تأجيل خيار المحادثات المباشرة مع واشنطن، خاصة حول القضايا الإقليمية، إلى حين استشراف ما سوف تنتهي إليه المفاوضات النووية من نتائج سوف تؤثر دون شك على اتجاهات العلاقات بين الطرفين على المستوى الإقليمي خلال المرحلة القادمة.

2- إنضاج توافق داخلي في طهران: مع أن قرار إجراء حوار مع الولايات المتحدة الأمريكية لا بد أن يحظى بموافقة من جانب القيادة العليا ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، الذي يبدو أنه لم يعد يمانع في تبني هذا الخيار؛ إلا أنه -في النهاية- يحتاج قبل تفعيله إلى الوصول إلى توافق داخلي حوله قبل أن تنخرط فيه إيران بالفعل. وهنا، فإن ذلك يعود في المقام الأول إلى أن النظام الإيراني حرص في الفترة الماضية على الترويج داخلياً لرؤيته القائمة على منع إجراء حوار مباشر مع واشنطن، خاصة بعد عملية قتل القائد السابق لـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في 3 يناير 2020، بما يعني أنه يحتاج، قبل اتخاذ خطوات إجرائية لتفعيل هذا الخيار، إلى تمهيد الساحة الداخلية أولاً عبر تمرير أسباب تغيير قراره والترويج لها باعتبار أن ذلك يدخل في نطاق “الخيار الاضطراري”. وقد كان لافتاً أن بعض أقطاب تيار المحافظين الأصوليين وجهوا انتقادات شديدة لتصريحات عبد اللهيان التي ألمح فيها إلى إمكانية إجراء حوار مع واشنطن، على غرار حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة “كيهان” (الدنيا) الذي قال إن هذا الخيار لن يفيد طهران بقدر ما سوف يحقق أهداف واشنطن، وأنه طالما أن أي اتفاق جديد سوف يتضمن بنوداً واضحة وملزمة فلا حاجة لمثل هذا الحوار.

3- مراقبة اتجاهات التصعيد مع إسرائيل: ترى إيران أن التصعيد الذي يجري مع إسرائيل على نطاق إقليمي أوسع، وكانت آخر جولاته في 31 يناير الفائت بشن هجمات جوية إسرائيلية ضد مواقع عديدة قرب العاصمة السورية دمشق، لا يتم بدون تنسيق بين الأخيرة والولايات المتحدة الأمريكية، التي ربما تحاول، في رؤيتها، عبر ذلك تحقيق هدفين: أولهما، تقليص حدة الضغوط التي تمارسها تل أبيب بسبب استمرار الانخراط الأمريكي في مفاوضات فيينا ومحاولة الوصول إلى صفقة جديدة. وثانيهما، توجيه رسائل مباشرة إلى إيران بضرورة وضع الملفات الإقليمية على طاولة المفاوضات حتى لو كان ذلك في مرحلة لاحقة. وهنا، فإن حدود هذا التصعيد مع إسرائيل، والتي ستساهم نتائج مفاوضات فيينا في ضبطها، ستمثل متغيراً رئيسياً حاكماً لرؤية طهران إزاء خيار الانخراط في مفاوضات مباشرة مع واشنطن خلال المرحلة القادمة، أو الاكتفاء بما جرى من مفاوضات غير مباشرة في فيينا، أو تحديد سقف غير مرتفع لهذه المفاوضات بما يتضمن صفقات من نوع تبادل إطلاق سراح سجناء على غرار ما جرى في مراحل سابقة.

4- تغيير توازنات القوى في دول الأزمات: من دون شك، تسعى إيران دائماً إلى تعزيز موقعها التفاوضي قبل الانخراط في أية مفاوضات مع القوى الدولية، وهو ما حدث قبل مفاوضات فيينا التي استبقتها برفع مستوى أنشطتها النووية بشكل أثار قلقاً واضحاً لتلك القوى. لكن على المستوى الإقليمي، تبدو المسألة مختلفة، إذ ربما لا ترى طهران أن موقف حلفائها يمكن أن يدفعها إلى القبول في الوقت الحالي بالانخراط في هذا الخيار، حيث تتعرض القوى الحليفة لها لضغوط قوية في المرحلة الحالية، على المستويين السياسي والعسكري. ففي العراق، لم تفلح جهودها حتى الآن في الوصول إلى توافق بين القوى السياسية الرئيسية، لا سيما التيار الصدري صاحب المركز الأول في الانتخابات التشريعية الأخيرة وقوى “الإطار التنسيقي” التي تراجعت نتائج معظمها بشكل ملحوظ في تلك الانتخابات، حول تشكيل الحكومة القادمة. وفي اليمن، واصل تحالف دعم الشرعية عملياته التي حققت نتائج بارزة في الفترة الماضية، على غرار استهداف منصات الهجوم الحوثية، وتحرير شبوة، وإطلاق عملية “حرية اليمن السعيد”.

ملفات مترابطة

ختاماً، يمكن القول إن إجراء حوار مع الولايات المتحدة الأمريكية سوف يبقى خياراً مطروحاً باستمرار لدى دوائر صنع القرار في إيران رغم كل “الشعارات المؤدلجة” التي تتبناها وتمنع ذلك ظاهرياً. لكن توقيت هذا الحوار وقضاياه يعتبر هو المتغير الأهم بالنسبة للأخيرة. فإيران تتحين الفرصة للانخراط في هذا الخيار، الذي تسعى لاستغلاله في تعزيز طموحاتها الإقليمية في المنطقة، لكنها تتمهل إلى حين استكمال شروط إنضاجه.