تفاؤل حذِر:
هل تنجح سياسة “اليد الممدودة” في “لم الشمل” الجزائري؟

تفاؤل حذِر:

هل تنجح سياسة “اليد الممدودة” في “لم الشمل” الجزائري؟



طرح الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون مبادرة “لم الشمل” لمنح المزيد من الحركية للمشهد السياسي، وهو ما يمكن تفسيره انطلاقاً من عدة دوافع يتمثل أبرزها في التوجه إلى تشكيل حكومة جديدة ائتلافية، والعمل على صياغة رؤية اقتصادية جديدة وما تحمله من تأثيرات اجتماعية. غير أنه يلاحظ انقسام الرأي العام في الجزائر بواجهته الحزبية، بين مُرحب ومُراقب وحذِر مما يراه غير واضح حول مشروع المبادرة، بشكل دفع النشطاء السياسيين للمطالبة بأن يكون المشروع مرتكزاً على خطوات تهدئة وأرضية للتغيير المأمول. وقد اتخذ الرئيس تبون عدة خطوات للتهدئة السياسية، أهمها إصدار عفو رئاسي عن السجناء والمعتقلين، والسماح بعودة بعض معارضي الخارج، واستبعاد المبادرة للعناصر المتطرفة. ورغم ذلك، يسود تيار رئيسي يغلب عليه “التفاؤل الحذِر” مما قد ينتج عن المبادرة من تحولات إيجابية مغايرة لما شهدته البلاد من خبرات سابقة مثل “قانون الرحمة” في عهد الرئيس الأسبق اليمين زروال، ثم قانون “الوئام المدني” و”ميثاق السلم والمصالحة الوطنية” في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.

خلال زيارته إلى تركيا، وأثناء لقائه في أنقرة مهاجرين جزائريين، منتصف مايو الجاري، أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن “لقاء شامل يضم الأحزاب خلال الأسابيع المُقبلة”، موضحاً أن هذا اللقاء سيكون بمثابة استكمال لاجتماعات بدأها مع قادة أحزاب، بصفة فردية، قبل زيارته إلى تركيا. بهذا الإعلان، حسم تبون الجدل السياسي الدائر حول مفهوم “اليد الممدودة للجميع بشكل دائم”، في إطار مبادرة “لم الشمل”، التي نسبتها له وكالة الأنباء الحكومية، في مقال نشرته مطلع هذا الشهر، بعنوان “عبد المجيد تبون رئيس جامع للشمل”. وبهذا الإعلان، الذي تحدث فيه الرئيس الجزائري لأول مرة عن المبادرة، تمكن أيضاً من منح المشهد السياسي في الجزائر “حركية” غابت عنه منذ فترة.

جبهة متماسكة

تبعاً لمضمون اللقاء بين الرئيس والجالية الجزائرية في تركيا، ونشرته الرئاسة، فإن المقصود من مبادرة “لم الشمل”، بحسب الرئيس تبون نفسه، هو تكوين جبهة داخلية متماسكة؛ وأن لقاءاته مع مسئولي الأحزاب التي تؤيد سياساته، والتي تُعارضه أيضاً، “سمحت بمناقشة وتقييم العديد من القضايا المحلية والدولية”. ضمن هذه القضايا، بحسب بيان الرئاسة، محاولة بلورة رؤية لضمان الحريات والانتقال السياسي، وكيفية تحقيق التنمية الاقتصادية كفاعل أساسي لاستقرار البلاد.

ومن بين الأطراف التي التقى بها عبد المجيد تبون، الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، والأمين العام لجبهة التحرير الوطني، إضافة إلى رؤساء أحزاب: جبهة المستقبل، وجيل جديد، وحركة مجتمع السلم الذي يمثل الكتلة المعارضة الوحيدة في البرلمان، وحركة البناء الوطني التي كان رئيسها عبد القادر بن قرينة، أحد المرشحين لرئاسيات ديسمبر 2019، التي أوصلت تبون للحكم خلفاً لبوتفليقة. فضلاً عن بعض الشخصيات مثل وزير الاتصال السابق عبد العزيز رحابي.

وبالنظر إلى الاختلاف في الهوية السياسية لهذه التشكيلات الحزبية، من إسلامية إلى ديمقراطية ووطنية، ومن مؤيدة إلى معارضة، يمكن توقع استمرار اللقاءات مما قد يُحدِث تغييرات ليست بالقليلة في المشهد السياسي. صحيح أن “جدول أعمال” المبادرة لم يتضح بكامله بعد؛ لكن اللقاء الشامل المرتقب مع الأحزاب يشير إلى بداية التوجه نحو آلية مهمة من آليات التحول الديمقراطي، الذي تتوق إليه، بحسب مراقبين، الساحة السياسية.

ومما له دلالة، في هذا الإطار، أن النظام السياسي الجزائري له تجارب سابقة ناجحة في مجال المصالحة. وفي حال تم عرض مبادرة “لم الشمل” رسمياً، كمشروع سياسي، سيكون الرابع من نوعه في الجزائر، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بعد “قانون الرحمة” في عهد الرئيس الأسبق اليمين زروال، ثم قانون “الوئام المدني” و”ميثاق السلم والمصالحة الوطنية” عام 2004، في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.

وبالرغم من الاختلافات الكبيرة بين الأوضاع التي كانت تعيشها الجزائر -حينذاك- والأوضاع الحالية بعد الحراك الشعبي، في فبراير 2019؛ إلا أن التجارب السابقة سيكون لها دور مهم في تحديد ملامح هذه المبادرة، ولا سيما ما يتعلق منها بمحاورها الأساسية وقضاياها وأدواتها.

دافعان رئيسيان

في حين يرى البعض أن مبادرة “لم الشمل”، التي تم إطلاقها بمناسبة الذكرى الستين للاستقلال الوطني، هي بداية التوجه نحو آلية مهمة من آليات التحول الديقراطي، يرى البعض الآخر، ومن بينهم الوزير والدبلوماسي السابق عبد العزيز رحابي، في حديث له مع صحيفة “الشروق” الجزائرية، بعد لقائه الرئيس تبون، أن المبادرة ضرورية لأجل “إرساء ثقافة التحاور والمشاركة”؛ مؤكداً على ضرورة “الذهاب بالمبادرة لإنهاء الصراعات والمناكفات السياسية، وتحقيق مطالب الجزائريين الذين خرجوا في تظاهرات 22 فبراير، أو الذين ذهبوا للتصويت في ديسمبر 2019”.

 وفيما بين هؤلاء وأولئك، يطرح طرف ثالث تساؤلات حول الدوافع السياسية وراء هذه المبادرة، ولا سيما مع استمرار التجاذب الحاد بين السلطة والنشطاء المعارضين، خاصة أن نجاح المبادرة يتطلب جملة من الاستحقاقات لضمان نجاحها، أهمها: وقف ملاحقة المعارضين، والإفراج عن سجناء الرأي، إضافة إلى المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية المُلحة، التي تطالب بها فئات كثيرة من جموع الشعب الجزائري.

ويمكن القول إن ثمة دافعين ساهما في إطلاق المبادرة: أولهما، التوجه إلى تشكيل حكومة جديدة ائتلافية، وهي خطوة مُرتقبة خاصة بعد أكثر من عامين على حكومة التكنوقراط، التي لم تنجح في تحقيق إنجازات لافتة في بعض القطاعات، لا سيما الاستراتيجية الهامة، مما يعني أهمية مشاركة بعض الأحزاب في الحكومة الجديدة.

وبحسب تصريحات رئيس حزب جيل جديد جيلالي سفيان، بعد اللقاء الذي جمعه بالرئيس تبون، ونقلها موقع “العين” الإخباري، فإن “وكالة الأنباء الرسمية لا تتكلم من محض إرادتها، هناك ربما إرادة سياسية نحو انسجام أكبر داخل الطبقة السياسية”. وفي رؤية جيلالي فإن “الأحزاب السياسية التي تمتلك أغلبية نسبية داخل المؤسسات المنتخبة، ليس لها أي دور”؛ وبالتالي يؤكد على أن “هناك وعياً لدى السلطة بخطر غياب البعد السياسي”، وأن “السلطة لا يمكنها التواصل مع المجتمع إذا لم تتوفر حلقة التواصل بين الطبقة السياسية ككل، وبين المجتمع”.

وثانيهما، العمل على صياغة رؤية اقتصادية جديدة، وهي خطوة متوقعة في إطار محاولة تشكيل لجنة خاصة لإعادة النظر في نظام الدعم الاجتماعي؛ مما يعني أن الإدارة السياسية الحالية ربما تحتاج إلى إسناد سياسي. ومن الواضح أن الرئيس يريد طرح تصور لإصلاحات اقتصادية عميقة، تنجم عنها بعض التداعيات الاجتماعية؛ وبالتالي يرى ضرورة وضع الأحزاب السياسية في تصور الحكومة المُقبلة والخطة السياسية، بما يشير إلى أهمية إشراك الأحزاب والشخصيات ذات الفاعلية السياسية وفعاليات المجتمع المدني في صياغة هذه الرؤية.

ويأتي هذا التوجه في سياق تأكيد الرئيس تبون نفسه على تحسن الأوضاع المالية للجزائر، بحسب تصريحاته أثناء لقائه الجالية الجزائرية في تركيا. حيث أشار إلى ارتفاع احتياطي العملة “الصعبة” الذي فاق “42 مليار دولار خلال هذه السنة”، مؤكداً على أن الجزائر “استطاعت خلال سنة 2021 رفع صادراتها خارج المحروقات إلى أكثر من 5 مليارات دولار، وذلك للمرة الأولى منذ 25 سنة”.

تهيئة سياسية

رغم التفاؤل الكبير الذي صاحب إطلاق مبادرة “لم الشمل”؛ إلا أن انقسام الرأي العام في الجزائر بواجهته الحزبية، بين مُرحب ومُراقب وحذِر مما يراه غير واضح حول مشروع المبادرة، دفع النشطاء السياسيين للمطالبة بأن يكون المشروع مرتكزاً على خطوات تهدئة وأرضية للتغيير المأمول. وقد اتخذ الرئيس تبون عدة خطوات للتهدئة السياسية، يتمثل أهمها في:

1- العفو عن السجناء والمعتقلين: فقد أصدر الرئيس تبون، بحسب بيان للرئاسة (3 أبريل الماضي)، عفواً عن 1076 سجيناً، إضافة إلى “تدابير رحمة” لصالح 70 معتقلاً في قضايا تتعلق بالإخلال بالنظام العام؛ وهم من المنتمين إلى الحراك الشعبي، الذي بدأ في 22 فبراير 2019 بتظاهرات حاشدة، تنديداً بترشح بوتفليقة لولاية خامسة، حتى تمت الإطاحة به.

2- السماح بعودة بعض معارضي الخارج: فبحسب عدد من وسائل الإعلام المحلية في الجزائر، من بينها صحيفتا النهار الجديد والشعب، فإن عدداً من الشخصيات السياسية المحسوبة على التيار المعارض في الخارج، ترغب في الاستفادة من مبادرة “لم الشمل” من أجل العودة إلى الجزائر؛ خاصة أن المبادرة تعبر عن مرحلة جديدة في تاريخ البلاد، تسمح للعديد من المعارضين الجزائريين في الخارج بالعودة إلى الوطن، بشرط الالتزام بقوانين الدولة وقواعد العمل السياسي المعترف بها؛ وذلك بحسب ما جاء في بيان المجلس الوطني لحقوق الإنسان في الجزائر، ونشره موقع “أصوات” مغاربية في 17 مايو الجاري.

3- استبعاد المبادرة للعناصر المتطرفة: طبقاً لمقال “عبد المجيد تبون رئيس جامع للشمل”، الذي نشرته وكالة الأنباء الحكومية، بشأن ما يمكن اعتباره بشروط الاستفادة من اليد الممدودة، في إطار مبادرة “لم الشمل” بين الأطراف السياسية الجزائرية، فإن هذه الخطوة لا تشمل الحركات الإرهابية أو العناصر المتورطة في جرائم إرهاب؛ بما يعني استبعاد عناصر جبهة الإنقاذ المحظورة في الداخل، فضلاً عن حركة “رشاد” التي تجمع عدداً من رموز الجبهة، وكذلك حركة “الماك” الانفصالية التي تم تصنيفها ضمن قائمة المنظمات الإرهابية في الجزائر.

4- استقطاب دعم الجيش للمبادرة: على نحو بدا جلياً في دعوة رئيس أركان الجيش الفريق السعيد شنقريحة، في 22 مايو الجاري، الجزائريين إلى الانخراط بقوة في المبادرة، مضيفاً في كلمة أمام قيادات عسكرية بالمنطقة العسكرية الثانية (غرب): “أشد على أيدي كافة أبناء الوطن للانخراط بقوة في هذه المبادرة الصادقة.. وهي مستلهمة من قيم أمتنا العريقة ومبادئ ثورتنا الخالدة. الجزائر الجديدة يشارك في بنائها كل أبنائها المخلصين”.

مرحلة جديدة

خلاصة القول، إن مبادرة “لم الشمل” التي دعا إليها الرئيس الجزائري يمكن، في حال تنفيذها كمشروع للتصالح السياسي، أن تضع الجزائر على أعتاب مرحلة جديدة؛ فهي ليست كسابقاتها التي تعودت عليها الساحة السياسية، منذ المسار الانتخابي عام 1992، حيث تتسم بكونها أكثر جدية، وأن ثمة دوافع سياسية متعددة ساهمت في إطلاقها. إلا أن الملاحظ هو التفاؤل الحذِر الذي ينتاب كثيراً من المراقبين للشأن السياسي الجزائري، بخصوص الإعلان عن لقاء شامل للأحزاب في الأسابيع المقبلة، دونما تحديد واضح لماهية المبادرة، وغموض محاورها الأساسية وقضاياها، وآليات تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه في إطارها. رغم ذلك، تفتح المبادرة آفاقاً واسعة نحو إعادة الاعتبار للحياة السياسية في الجزائر، وإكسابها حركية غابت عنها لفترة من الزمن.