تحديات قائمة:
هل تنجح الوساطة الروسية في التقريب بين “الأسد” و”أردوغان”؟

تحديات قائمة:

هل تنجح الوساطة الروسية في التقريب بين “الأسد” و”أردوغان”؟



تعمل روسيا في الوقت الحالي على حلحلة العلاقة بين سوريا وتركيا التي يسودها الفتور منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، وذلك بإبرام وساطة ينجم عنها ترتيب عقد محادثات مباشرة بين الرئيسين التركي “رجب طيب أردوغان” والسوري “بشار الأسد” لتهدئة حدة المواجهة بينهما. وقد أبدت أنقرة في البداية ترحيباً بالجهود الروسية، فيما عارضت دمشق معلنة رفضها هذا الاجتماع المشترك في الوقت الراهن، وهو ما يضع عراقيل أمام الوساطة الروسية، ومنها: إصرار سوريا على وقف الدعم التركي للمعارضين، واستمرار مساعي تركيا لإقامة منطقة آمنة شمال سوريا، وضغوط النظام الإيراني على “الأسد”، ورفض قوات “قسد” بدعم أمريكا مطالب روسيا.

فقد أكد المبعوث الرئاسي الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا “ألكسندر لافرينتيف”، في 2 ديسمبر 2022، أن بلاده تكثف جهودها في الوقت الراهن للعمل على تنظيم لقاء يجمع الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، قائلاً في لقاء صحفي له: “أكرر على تركيا أن تنظر في هذا (اللقاء)، نعتقد أنّ مثل هذا الاجتماع سيكون إيجابياً ومفيداً بشكل عام، ونحن نعمل في هذا الاتجاه.. إمكانية عقد اجتماع للرؤساء في روسيا متاحة دائماً، وموسكو تؤيد ذلك”.

دلالات التوقيت

وتأتي المساعي الروسية لتسوية الصراع والصدام العسكري القائم بين تركيا وسوريا، بالتزامن مع جملة من التطورات على الأرض، وهو ما يمكن توضيحها على النحو التالي:

1- العملية العسكرية التركية لاستهداف أكراد سوريا: عملت أنقرة خلال السنوات الأخيرة على استهداف مواقع الأكراد في الأراضي السورية، وخاصة “وحدات حماية الشعب الكردية” التي تصنفها كمنظمة إرهابية تهدد أمنها واستقرارها بشن عمليات إرهابية تستهدف الداخل التركي، ولذلك بعد أيام قليلة من وقوع تفجير ميدان تقسيم بمدينة إسطنبول في 13 نوفمبر الماضي والمتهم في تنفيذه الفتاة “أحلام البشير” التي ألقت الأجهزة الأمنية التركية القبض عليها، وكشفت التحقيقات التركية أن منفذة الهجوم الذي نجم عنه مقتل 6 أشخاص وإصابة 81 آخرين، سورية الجنسية وتنتمي لحزب العمال الكردستاني وجناحه السوري وحدات حماية الشعب الكردية السورية (YPG) ؛ أعلن الرئيس “أردوغان” عن إطلاق “عملية برية” لاستهداف أكراد سوريا في مناطق قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وشن سلسلة من الهجمات بالطائرات والمسيرات على مواقع الأكراد في جميع أنحاء شمال سوريا، خاصة أن العملية العسكرية التركية المعروفة بـ”المخلب-السيف” التي تم إطلاقها في 20 نوفمبر الماضي، استهدفت مناطق سيطرة “قسد” في شمال البلاد، وتحديداً في تل رفعت ومنبج ومدينة عين العرب بمحافظة حلب.

2- مفاوضات أمريكية تركية بشأن هجمات شمال سوريا: تأتي الوساطة الروسية بعد أيام من إعلان عدد من المصادر التركية والروسية المطلعة، في 25 نوفمبر الماضي، عن تقديم السفير الأمريكي في أنقرة “جيف فليك” لوزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” خلال اجتماع مشترك في أنقرة، “عرضاً أمريكياً” لوقف أنقرة أعمالها التصعيدية وثنيها عن المضي قدماً في تنفيذ عملياتها العسكرية في شمال سوريا، مقابل انسحاب قوات “قسد” (تنتمي لوحدات حماية الشعب الكردية وتعمل مع القوات الأمريكية الموجودة بشمال شرق سوريا) إلى مسافة 30 كم من الحدود السورية التركية، وجاء العرض الأمريكي رداً على ما كشفته بعض المصادر المطلعة في اليوم ذاته عن مفاوضات بين مسؤولي أنقرة وموسكو، هدفها شن “عملية عسكرية تركية محدودة” وصفوها بـ”صغيرة الحجم” لإخراج المقاتلين الأكراد السوريين من غرب نهر الفرات في الأسابيع المقبلة، للمساهمة في تأمين الحدود الجنوبية لتركيا ووقف عملياتها بالمنطقة.

3- رغبة تركية في الانفتاح على النظام السوري: على مدى أكثر من عقد لم يُخفِ الرئيس “أردوغان” دعمه لقوى المعارضة السورية وتوجيهه انتقادات لنظام “الأسد” بشكل مستمر، وهو الأمر الذي لطالما انتقده الأخير وكان محل صراع دائم مع أنقرة، ولكن خلال العامين الأخيرين طرأت عدة تحولات على السياسة الخارجية التركية، دفعت “أردوغان” للتقارب مع عدد من بلدان المنطقة العربية، بداية من الإمارات والسعودية وصولاً إلى مصر، حينما صافح الرئيس التركي نظيره المصري “عبدالفتاح السيسي” بحضور أمير قطر “تميم بن حمد” على هامش افتتاح مونديال 2022 بالدوحة، ونالت سوريا نصيباً أيضاً من تغير السياسة التركية تجاه سوريا، عكستها التصريحات الأخيرة لـ”أردوغان” والتي أكد فيها عدم معارضته عقد مباحثات مباشرة مع نظيره السوري، قائلاً في تصريحات لوكالة الأنباء التركية “الأناضول” أواخر نوفمبر الماضي خاصة بعد الهجوم التركي على أكراد سوريا: “اللقاء مع الأسد ممكن. لا ضغينة أو مرارة في السياسة”، ومضيفاً: “تركيا يمكن أن تضع الأمور في مسارها الصحيح مع سوريا”.

ويرجع هذا التحول إلى تأكد “أردوغان” من أن استمرار معارضة بلاده للنظام السوري لن يكون في صالحه، خاصة مع استمرار الدعم الأمريكي لقوات “قسد” الكردية، والدعم الإيراني لنظام “الأسد”، وتحركات روسيا الداعمة لـ”الأسد” للانتشار في سوريا، هذا بجانب وجود رغبة تركية لحل أزمة اللاجئين السوريين المنتشرين بالأراضي التركية والذين يبلغ عددهم نحو 3.7 ملايين لاجئ قبل الانتخابات الرئاسية التركية المزمع انعقادها في يونيو 2023، لأن نجاح “أردوغان” في هذا الملف قد يعزز من فرص فوزه بالانتخابات.

4- تذبذب المواقف السورية التركية: لا تزال الوساطة الروسية يقابلها رفض من قبل النظام السوري الحاكم برئاسة “بشار الأسد”. فعقب إعلان المبعوث الرئاسي الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا “ألكسندر لافرينتيف” عن تحرك بلاده لعقد لقاء بين الرئيسين التركي والسوري، كشفت وكالة “رويترز” البريطانية أن الأخير لا يزال يرفض الاجتماع مع نظيره التركي في الوقت الحالي، وأنه ربما يفكر في الأمر عقب الانتخابات الرئاسية التركية كي لا يمنح أي فرصة لأردوغان لتعزيز موقفه قبل الانتخابات، وهذا الرفض السوري أكده أيضاً “أورهان ميري أوغلو” عضو هيئة القرار والتنفيذ المركزي لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، بالقول: “دمشق رفضت طلب أنقرة بشأن ترتيب لقاء بين الرئيسين التركي والسوري”.

ولم تمضِ سوى أيام قليلة على هذا الإعلان، حتى خرج المتحدث باسم الرئاسة التركية “إبراهيم كالين” في مقابلة تلفزيونية، في 5 ديسمبر الجاري، لينفي عدم وجود لقاء مرتقب بين “أردوغان” و”الأسد”، قائلاً: “أنقرة لا تخطط للقاء قريب بين أردوغان والأسد، وإن الرئيس التركي يوجه رسالة إلى نظيره السوري مفادها أنه إذا تصرّف بمسؤولية وبدَّد مخاوف تركيا الأمنية وسمح للمسار السياسي السوري بالتقدم، وضمن أمن وحماية الحدود التركية السورية، فإنه مستعدّ للقائه”.

عراقيل قائمة

وفي ظل هذه التطورات، يمكن القول إن الوساطة الروسية تواجهها جملة من العراقيل، خاصة بعد رفض كلا الطرفين عقد اجتماعات سواء على مستوى وزيري خارجية البلدين كحد أدنى أو على المستوى الرئاسي، على النحو التالي:

1- إصرار سوريا على وقف الدعم التركي للمعارضين: إن رفض “الأسد” مقترح عقد اجتماع مع “أردوغان” بوساطة روسية وبحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لن يقع في القريب العاجل، لأن النظام السوري لا يزال يرفع من سقف مطالبه للموافقة على تطبيع علاقاته مع نظيره التركي، ويأتي من أهمها توقف الأخير عن دعم قوى المعارضة السورية الذين يعتبرهم نظام الأسد “إرهابيين”، وانتشار القوات الحكومة السورية على المعابر الحدودية مع تركيا لتسهيل عملية ملاحقتها لمعارضي النظام، هذا بجانب إعادة تركيا لمحافظة إدلب ومناطق بمحافظة حلب الواقعة تحت سيطرتها إلى حكومة دمشق، إضافة إلى إجبار أنقرة على رفض أية عقوبات أوروبية أو أمريكية تفرض على نظام “الأسد” ومساندته في أية محافل دولية لإثبات ولائها للانفتاح على النظام السوري.

2- استمرار مساعي تركيا لإقامة منطقة آمنة شمال سوريا: لا يزال “أردوغان” حريصاً على إقامة منطقة آمنة بعمق 35 كم في الشمال السوري تسهل من عملية عودة اللاجئين السوريين من تركيا، التي كشفت أن المنطقة التي تريد إقامتها تسهم في استيعاب مليون لاجئ سوري، والحد من عمليات النزوح داخل سوريا وباتجاه تركيا وحماية الحدود الجنوبية التركية، وقد سبق الإعلان عنها في منتصف مايو الماضي. ورغم المعارضة السورية والأمريكية وأيضاً الروسية، إلا أن أنقرة ماضية في تنفيذ هذا الهدف. ورغم أنها توقفت لفترة في الحديث عن تطورات المنطقة الآمنة، إلا أنها عادت مؤخراً خاصة بعد عرضها الوساطة بين أوكرانيا وروسيا، للحديث عن المنطقة الآمنة، وعليه فإن إعلان “أردوغان” في 25 نوفمبر الماضي عن توجه بلاده لاستكمال الحزام الأمني من الغرب إلى الشرق على امتداد حدودها الجنوبية شمالي سوريا، يأتي ضمن مخطط العملية العسكرية التركية الهادفة لتمديد “مناطق آمنة” بعمق 30 كم على طول الحدود التركية باتجاه العمق السوري.

3- ضغوط النظام الإيراني على “الأسد”: تعد طهران من أبرز الداعمين لنظام الرئيس السوري “بشار الأسد”، ورغم أنها تقوم في الوقت الحالي بشن هجمات الصواريخ والمسيرات لاستهداف الأكراد في العراق، إلا أنها حذرت أنقرة من العملية العسكرية التي تريد شنها في سوريا، وقال وزير الخارجية الإيراني “حين أمير عبداللهيان” في مباحثات هاتفية مع نظيره التركي “مولود جاويش أوغلو” مطلع ديسمبر الجاري: “لن يساعد اللجوء إلى العمليات العسكرية البرية في حل المشاكل، بل سيلحق الأضرار، ويجعل الوضع أكثر تعقيداً”، معلناً في الوقت ذاته استعداد بلاده للمشاركة في التوصل إلى حل سياسي للمشاكل القائمة بين تركيا وسوريا. وبحسب وجهة النظر هذه فقد كشف بعض المراقبين أن طهران تضغط على “الأسد” لعدم القبول بالوساطة الروسية، ويرجع هذا لتخوفها من نجاح “بوتين” في خلق حالة من التقارب والوفاق بين دمشق وأنقرة ينتج عنها توقيع اتفاقيات مشتركة بين الطرفين، تنعكس سلباً على المصالح الإيرانية في الأراضي السورية، ولذلك تريد طهران أن تلعب هي دور الوساطة لتوظيفها لصالحها.

4- رفض قوات “قسد” بدعم أمريكا مطالبَ روسيا: تعي قوات سوريا الديمقراطية المعروفة اختصاراً بـ”قسد” التي تدعمها واشنطن أن نجاح الوساطة الروسية في حلحلة العلاقة بين نظامي الأسد وأردوغان، لن يكون في مصلحتها، وعليه فهي لا ترغب في حدوث ذلك، خاصة بعد أن أجرى عدد من المندوبين الروس أواخر نوفمبر الماضي بالتوازي مع تحركات إبرام الوساطة، عدداً من اللقاءات مع قيادات “قسد”، تم خلالها تقديم موسكو عرضاً إليهم مفاده أن تغادر القوات الديمقراطية من المناطق الحدودية مع تركيا وتحديداً من ريف حلب الشمال والشرقي، مقابل السماح لقوات من الفيلق الخامس (قوات تابعة لنظام الأسد ولكنها تعمل بشكل مستقل عنه وتدعمها روسيا بالأسلحة منذ نوفمبر 2016) بالانتشار فيها، وهذا ما أوضحته القائد العام لوحدات حماية المرأة التابعة لمليشيا قسد “نوروز أحمد” وقتها، قائلة: قيادة قسد اجتمعت مع مندوبي القيادة الروسية في سوريا، وإن الروس قدموا عرضاً كان من الواضح أنه يهدف إلى “تقوية الحكومة السورية”، وبعدها أعلنت “قسد” رفضها للعرض السوري.

وتجدر الإشارة إلى أن العرض الذي قدمته موسكو لقوات “قسد” هو بمثابة حل وسط يرضي كل الأطراف، كما أنه أحد عناصر نجاح وساطتها في التقريب بين سوريا وتركيا من ناحية، وثني أردوغان عن شن العملية العسكرية من ناحية أخرى، لأن أحد مطالب الأخير هو خروج قوات قسد (التي تعد وحدات حماية الشعب الكردية أحد فصائلها) من مناطق شمال سوريا وعودة قوات النظام السوري.

وساطة مشروطة

خلاصة القول، إن نجاح الوساطة الروسية في عقد مباحثات مباشرة بين سوريا وتركيا على المستوى الرئاسي، سيظل مرتهناً بمدى قدرة موسكو على حل العراقيل السابق ذكرها، وهو ما يجعلها تتبع “سياسة النفس الطويل” في التعامل مع تلك المشاكل ونصب أعينها خلال الفترة المقبلة على إيجاد حلول وسط للأطراف المعارضة لمساعي الوساطة الروسية، وأن تعي في نهاية الأمر أن عقد لقاء بين “أردوغان” و”الأسد” مرتبط -إلى حد كبير- برغبة الطرفين قبل الجلوس على طاولة المفاوضات في التنازل عن مطالبهما المتشددة، والتركيز على التوصل لحل ينهي الأزمة السورية التي دخلت عامها الحادي عشر.