في ظل استمرار الأزمة السياسية الراهنة في السودان، وتعثر جهود التسوية الإقليمية والدولية لهذه الأزمة؛ دعا أحد قيادات “حراس الدين” في سوريا ويدعى “أبو حذيفة السوداني” (تعرض الرجل للمطاردات والملاحقات الأمنية، وتم القبض عليه من قبل، ليبقى داخل السجون السعودية لفترات طويلة قبل إخلاء سبيله وعودته للسودان مرة أخرى، ثم اتجه لتوثيق مسيرته في القتال وحياته الجهادية من خلال إصدار عدد من الكتب من بينها “اتكاءة على حد السيف” و”خواطر سجين” و”الأمير المنسي” و”كلمات حب”، وأخيراً كتابه الذي سينشر قريباً وهو “الآن جاء القتال.. رسائل حرب إلى المجاهدين في السودان”) في شهر أكتوبر الماضي، من وصفهم بـ”المجاهدين” لخوض معركة مفتوحة وطويلة الأجل مع ما أطلق عليه “واجهات الكفر العالمي” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها “رأس الأفعى”، وخوض حرب مفتوحة أيضاً مع وكلائها الإقليميين والحكومة الحالية في السودان بوصفها حكومة “عميلة” و”مرتدة”.
تفاقم الأزمة
جاءت دعوة “السوداني” لما أطلق عليه “سودنة” القتال في السودان، أو بدء “العمل الجهادي” داخل السودان ضمن مجموعة من الأفكار التي تضمنها كتابه، الذي جاء تحت عنوان “الآن جاء القتال.. رسائل حرب إلى المجاهدين في السودان”، وتزامن هذا الطرح مع عدد من المتغيرات السياسية الهامة داخل البلاد، من أبرزها ما يلي:
1- تعثر جهود تسوية الأزمة السياسية: جاءت هذه الدعوات الإرهابية في سياق محاولة المكونين المدني والعسكري التوصل لتسوية سياسية تحظى بتوافق من قبل كافة الأطراف السودانية بهدف إخراج البلاد من أزمتها السياسية الحالية، حيث انتشر الحديث عن موافقة المكون العسكري على مسودة وثيقة دستورية صاغتها نقابة المحامين في شهر أغسطس الماضي لتشكيل حكومة بقيادة مدنية لقيادة البلاد إلى الانتخابات، المقرر إجراؤها في غضون الـ24 شهراً القادمة، لكن عدة فصائل رفضت الاتفاق المبدئي والتفاوض مع الجيش، وإعلان حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية رفضهما لهذا الاتفاق.
2- استمرار الاحتجاجات الشعبية، لا تزال البلاد تشهد احتجاجات شعبية انقسمت إلى فريقين، الأول يدعو الجيش إلى ترك الحياة السياسية وتسليم السلطة للقوى المدنية، ويتزعم هذا الفريق: قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، واللجان الثورية، وبعض الأحزاب السياسية كالأمة والمؤتمر السوداني. في حين نظم الفريق الآخر الذي يتزعمه حزب المؤتمر الوطني “المنحل” والإسلاميون مظاهرات مضادة تطالب ببقاء المكون العسكري في السلطة، وطرد البعثة الأممية من البلاد، ورفض إقصائهم من الحياة السياسية.
3- تجدد الصراعات القبلية: فقد شهدت البلاد خلال الشهور القليلة الماضية تجدداً للاشتباكات القبلية المسلحة في عدد من الولايات السودانية (النيل الأزرق – دارفور – كردفان..) والتي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 359 شخصاً وفقاً للإحصاءات التي أعلنتها الأمم المتحدة مؤخراً في هذا الخصوص.
عوامل دافعة
يُمكن تفسير تجدد دعوة “أبو حذيفة السوداني” لتشكيل جماعات جهادية في السودان، من خلال مجموعة من العوامل التي دفعته إلى ذلك، وذلك على النحو التالي:
1- توافر البيئة المناسبة للعمل “الجهادي”: يرى “السوداني” أن السودان في مرحلة ما بعد إسقاط نظام الإنقاذ منذ أبريل 2019، صارت تتوافر به البيئة الحاضنة لتشكيل جماعات جهادية لمحاربة النفوذ الأمريكي ووكلائها المحليين والإقليميين داخل السودان، وخاصة في ظل انشغال السلطات الانتقالية بالأزمة السياسية الممتدة منذ العام الماضي، والانقسام الحاصل في صفوف القوى السياسية والمدنية، وكذلك غياب حكومة قادرة على إدارة شؤون البلاد، وفي الوقت نفسه تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تحاول التنظيمات الإرهابية استغلالها لجذب مقاتلين جدد والانضمام لصفوفها.
2- ضعف وحداثة التجربة “الجهادية” وغياب القيادة: يُقر “السوداني” بأن السودان لا توجد به أية جماعات جهادية، واعتبر ذلك مدعاة لتشكيل جماعات جهادية لملء الفراغ الجهادي داخل المجتمع السوداني، ولذلك يقترح “أبو حذيفة” أن البيئة الداخلية بالبلاد أصبحت مهيأة تماماً للتغيير المسلح، وأنها على أعتاب (حالة قتالية) قادمة، مما يشكل الأساس الصلب الذي تقوم عليه مقومات العمل الجهادي ليكون بمثابة الأرض الخصبة لانطلاقة الجهاد الذي يبدأ عبر شريط مطول من خلال جبهاته في “دنقلا” لتغطي “عطبرة” مروراً بـ”شندي” ثم “بورتسودان” وتلتقي في “كسلا وتعبر “سهول البطانة” وتنضم “مدني” و”كوستي” وتلحق بها حواضر “كردفان” و”دارفور” وتكون مقرات رباطها داخل أحياء الخرطوم. ويؤكد في هذا الإطار على أن الجهاد في السودان أصبح واجباً وفرض عين في الوقت الحالي، مشدداً على قلة الخبرات العسكرية لمن وصفهم بـ”المجاهدين” الذين يعانون حالة من الضعف والارتباك وحداثة التجربة، في ظل غياب “القائد الرمز” لتنفيذ هذه العمليات. ورغم إشارة “السوداني” في مواضع كثيرة في كتابه إلى من وصفهم بـ”المجاهدين”، إلا أنه لم يُشر صراحة إلى وجود نواة صلبة تمثل الأساس لتنفيذ عمليات إرهابية.
3- اتهام الحكومة السودانية بـ”الردة والعمالة”: يرى “أبو حذيفة” أيضاً أن الحكومة الحالية في السودان هي حكومة “مرتدة وعميلة ويجب محاربتها والقضاء عليها”، ولذلك دعا إلى الاستعداد لقتالها كون ذلك “واجباً شرعياً”، وفقاً لمقتضيات المرحلة الحالية التي يمر بها السودان، ولذلك دعا إلى تشكيل جماعات جهادية لتنفيذ ذلك الأمر، مع تحذيرهم من خطورة المواجهة مع الحكومة الحالية نظراً لأنها تتعاون مع واشنطن على المستويين الأمني والمخابراتي، وهو ما سيؤدي حتماً إلى مواجهة عسكرية كبيرة.
4- انشغال الإسلاميين بمصالحهم الخاصة: يُشير “السوداني” كذلك إلى أن الحركات المسلحة المتواجدة في السودان حالياً منشغلة فقط بمصالحها ولا تدافع عن الدين، كما أن التيار الإسلامي العريض المتواجد حالياً يتسم بالضعف والردة، ولذلك يجب محاربتهم، مبرراً ذلك بـ”ردة” المنتسبين لهذا التيار، خاصة وأن الإسلاميين في السودان يحاولون العودة ليصبحوا جزءاً من المشهد السياسي الراهن، ومن ثم محاولة العودة إلى السلطة مرة أخرى، وهو ما يمثل انحرافاً من الإسلاميين عن هدف الدعوة ونصرة الدين، وبالتالي وجب محاربتهم.
5- محاولة لتعزيز النفوذ في شرق أفريقيا: تأتي دعوات “السوداني” لتشكيل جماعات جهادية للقيام بعمليات إرهابية بأسلوب حرب العصابات داخل السودان، في ظل فشل تنظيم داعش في التمدد داخل السودان واتخاذها نقطة انطلاق جديدة، بعد انحسار دوره في سوريا والعراق، وهو ما كان دافعاً لقيادي في تنظيم القاعدة لإطلاق مثل هذه الدعوات، ومن ثم التفكير في تشكيل جماعات موالية لها داخل السودان، وذلك في إطار التنافس الجهادي بين القاعدة وداعش على كسب مناطق نفوذ جديدة في شرق القارة الأفريقية.
سيناريوهان محتملان
وفي ضوء ما سبق، توجد بعض السيناريوهات المحتملة الحدوث والمرتبطة بإمكانية إنشاء جماعة جهادية تابعة للقاعدة داخل السودان خلال الفترة القادمة، ومن ذلك ما يلي:
السيناريو الأول- تشكيل جماعات جهادية موالية للقاعدة: يرجح هذا السيناريو أن تجد دعوات “أبو حذيفة” استجابة داخل السودان من بعض معتنقي أفكار تنظيم القاعدة داخل السودان، ومن ثم العمل على تشكيل نواة للقاعدة داخل البلاد، وذلك استناداً إلى نجاح التنظيم في تجنيد العديد من المقاتلين السودانيين وضمهم لفروع التنظيم في عدة دول مثل سوريا والعراق وغيرهما، كما يستند هذا السيناريو إلى توافر البيئة الأمنية المناسبة لتشكيل جماعات جهادية، وانشغال السلطات الانتقالية بالأزمة السياسية، بالإضافة إلى أن السودان كان ملاذاً للحركات الإسلامية، منهم قيادات في تنظيم “القاعدة”، خلال فترة الرئيس المعزول عمر البشير، وهو ما دفع واشنطن لإدراج البلاد تحت قائمة الدول الراعية للإرهاب.
السيناريو الثاني- استمرار الدعوات دون استجابة واضحة: ويرجح هذا السيناريو أن تظل دعوات “أبو حذيفة” قيد الكتب فقط دون وجود القدرة على تشكيل جماعات جهادية داخل السودان، وذلك استناداً إلى عدد من العوامل التي تحد من فرص تحقيق ذلك، ومن أبرزها ما يلي:
1- فشل محاولات سابقة للقادة المؤسسين لـ”القاعدة”: حيث فشلت محاولات كل من زعيمي القاعدة السابقين “أسامة بن لادن” و”أسامة الظواهري” في أعوام 2007 و2009 في جذب الجماعات المسلحة داخل إقليم دارفور للانضمام إلى التنظيم وتكوين نواة لها داخل البلاد، باستثناء نجاح جماعة “أنصار التوحيد” و”تنظيم القاعدة في أرض النيلين” في استهداف دبلوماسي أمريكي (“جون غرانفيل” الموظف في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية) في عام 2008 وقتله في الخرطوم.
2- غياب الحاضنة الفكرية والاجتماعية: عدم وجود حاضنة لتنظيم القاعدة داخل المجتمع السوداني، في ظل وجود مزاج ديني داخل المجتمع السوداني يميل إلى الصوفية الدينية القائمة على التسامح والابتعاد عن العنف والأعمال الإرهابية.
3- التعاون الأمني والاستخباراتي مع أمريكا: ثمة تعاون بين السودان والولايات المتحدة الأمريكية في مجال مكافحة الإرهاب خلال السنوات الماضية، والذي نجح في الحد من محاولات التنظيمات الإرهابية، مثل داعش والقاعدة، في الانطلاق والتمدد داخل السودان خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في مرحلة ما بعد سقوط نظام الإنقاذ في عام 2019.
4- غياب الاستجابة لدعوات “السوداني” السابقة: دعوة “أبو حذيفة” لم تكن الأولى من نوعها، فقد سبق له طرح دعوة مماثلة قبل عدة أشهر من خلال كتابه “الأمير المنسي” لتشكيل جماعات جهادية داخل السودان لاستهداف جهاز المخابرات العامة السوداني وإدارة مكافحة الإرهاب التابعة له، وأيضاً المؤسسات الاقتصادية للجيش السوداني. إلا أن هذه الدعوات لم تجد لها استجابة أو صدى داخل السودان، وهو ما دفعه لتجديد دعوته.
محدودية التأثير
خلاصة القول، رغم تفاقم الأوضاع السياسية وتردي الأوضاع الأمنية في السودان، إلا أن دعوات تشكيل جماعات موالية لتنظيم “القاعدة” داخل السودان تظل محدودة التأثير حتى الآن، ومع ذلك لا يمكن استبعاد احتمالات تأثير هذه الدعوات المتكررة في تشكيل بعض الخلايا النائمة مستقبلاً، وتنفيذ عمليات إرهابية داخل البلاد.