لم تنجح الجهود المبذولة للوصول إلى تسويات سياسية للأزمات الإقليمية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في تحقيق نتائج بارزة. ومع ذلك، فإن هناك مؤشرات توحي بأن ثمة اتجاهاً نحو “التهدئة” في معظم تلك الأزمات، وهو ما يعود إلى اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في تغير توازنات القوى لصالح بعض الأطراف مثلما يحدث في سوريا، واستمرار تنفيذ الخريطة السياسية للمرحلة الانتقالية، لاسيما ما يتعلق بإجراء الانتخابات، على غرار ما يحدث في ليبيا، بالتوازي مع اتجاه العديد من القوى الرئيسية في المنطقة نحو تقليص حدة التوتر والوصول إلى تفاهمات حول بعض الملفات.
في مقابل ذلك، تبدو منطقة آسيا الوسطى والقوقاز مقبلة على مرحلة من عدم الاستقرار. إذ ما زالت التداعيات التي فرضها وصول حركة “طالبان” إلى السلطة في منتصف أغسطس الماضي، تثير قلق دول الجوار، التي بدت حريصة على ترقب وانتظار ما سوف تقدم عليه الحركة من إجراءات قبل أن تبلور سياسة واضحة المعالم تجاهها. كما أن عودة “طالبان” إلى الحكم مجدداً قد توفر مُحفِّزات لتنظيمات إرهابية من أجل تعزيز حضورها من جديد في المنطقة، خاصة في ظل الهزائم والضربات التي تتعرض لها في بعض دول منطقة الشرق الأوسط. ويتوازى ذلك مع استمرار الأزمة المزمنة بين أرمينيا وأذربيجان رغم جهود التهدئة التي تبذلها بعض القوى المعنية بملف إقليم ناجورني قره باغ، فضلاً عن تصاعد الخلافات بين إيران وأذربيجان على خلفية الاتهامات التي توجهها الأولى إلى الثانية بتعزيز حضور إسرائيل على حدودها.
ارتباط مباشر
هنا، يمكن القول إن هناك علاقة مباشرة بين أزمات المنطقتين، لاسيما أن القوى الإقليمية المعنية بأزمات منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، هى تقريباً القوى نفسها المنخرطة في أزمات الشرق الأوسط، على غرار روسيا وإيران وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. وانطلاقاً من ذلك، يمكن تفسير تصاعد حدة الأزمات في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز في ضوء الاعتبارات التالية:
1- تعويض إخفاقات التدخلات الإقليمية: وهو ما يبدو جلياً في حالة تركيا، حيث أن رهانها على إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد لم ينجح في النهاية، بعد أن تغيرت توازنات القوى لصالح الأخير بفعل الدعم الذي حظى به من جانب روسيا وإيران والمليشيات الحليفة لها. كما بدا أن التدخل التركي في ليبيا أثار أزمات مع قوى دولية وإقليمية عديدة على نحو فرض ضغوطاً قوية على أنقرة، بشكل بات حتى مثار جدل داخلي بين حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان وبعض قوى المعارضة. وربما يكون ذلك أحد المتغيرات التي دفعت تركيا إلى توسيع نطاق انخراطها في أزمات منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، خاصة فيما يتعلق بالدعم المتواصل لأذربيجان في الصراع مع أرمينيا حول إقليم ناجورني قره باغ، بالتوازي مع قيامها بنقل عناصر من المرتزقة والمليشيات من سوريا ولبنان إلى الإقليم للمشاركة في المواجهات المسلحة ضد أرمينيا.
2- عدم نضوج التسويات المطروحة: رغم تراجع حدة الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، بعد المواجهة العسكرية التي اندلعت بين الطرفين واستمرت ستة أسابيع في الفترة من 27 سبتمبر إلى 10 نوفمبر 2020 وأسفرت عن مقتل 6500 شخص، إلا أن ذلك لم يمنع تجدد الأزمة بين الحين والآخر، وهو ما يعود إلى عدم نضوج التسويات المطروحة. إذ لا يبدو أن اتفاق وقف إطلاق النار- الذي أعلن في 10 نوفمبر 2020- يحظى بدعم واضح من جانب بعض القوى المعنية بالملف، لاسيما أرمينيا. وقد بدا ذلك جلياً في تجدد المواجهات المسلحة بين الدولتين في 16 نوفمبر الفائت على نحو أدى إلى مقتل 6 جنود أرمن و7 جنود آذريين. وفي رؤية اتجاهات عديدة، فإن عدم الوصول إلى تسوية نهائية للصراع كان محل توافق بين قوى إقليمية معنية به، لاسيما روسيا وتركيا وإيران، خاصة أن ذلك يعزز من حضورها في تلك المنطقة التي تحظى بأهمية استراتيجية من جانبها.
3- مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة: لا يمكن فصل التصعيد الذي جرى على نحو لافت بين إيران وأذربيجان، في النصف الأول من أكتوبر الماضي، عن تداعيات الوجود الإيراني في بعض أزمات منطقة الشرق الأوسط. ففي رؤية اتجاهات عديدة، فإن إيران ترى أن إسرائيل تحاول الاقتراب من حدودها عبر علاقاتها القوية مع أذربيجان، رداً على الحضور الإيراني في سوريا ولبنان، والذي ترى تل أبيب أنه يهدد أمنها واستقرارها بشكل مباشر. وربما يمكن القول هنا، إن هذا الحضور الإقليمي المتبادل كان محور تحركات الدولتين في الفترة الأخيرة. فقد دعا الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خلال مشاركته في قمة منظمة التعاون الاقتصادي “ايكو” التي عقدت في العاصمة التركمانية عشق آباد، في 29 نوفمبر الفائت، دول المنطقة إلى حل مشكلات المنطقة بنفسها، محذراً من أن “وجود الأجانب يعقد الوضع”. في حين تبذل إسرائيل جهوداً حثيثة من أجل توجيه اهتمام القوى الدولية المعنية بمفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي مع إيران نحو ضرورة فرض قيود شديدة على الأنشطة النووية الإيرانية، وتوسيع نطاق التفاوض ليشمل برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي.
4- التباين في التعامل مع “طالبان”: بدأت القوى الرئيسية في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز في اتباع سياسات متباينة في التعامل مع حركة “طالبان” التي سيطرت على السلطة في أفغانستان بداية من منتصف أغسطس الماضي. ففيما أشارت تقارير عديدة إلى أن روسيا توسع نطاق تفاهماتها مع الحركة لدرجة وصلت إلى منحها ما يمكن تسميته بـ”نصف اعتراف”، فإن أطرافاً أخرى، مثل إيران، ما زالت تربط اتجاهات علاقاتها مع الحركة بالخطوات التي ستتخذها على المستوى الداخلي، لاسيما ما يتعلق بالموقف من المكونات المجتمعية المختلفة، وربما تتجه إلى محاولة توسيع نطاق تدخلها في أفغانستان لصالح بعض تلك المكونات، رغم أن ذلك قد يؤثر على قنوات التواصل المفتوحة مع “طالبان” حتى قبل وصولها إلى السلطة.
5- تعزيز نفوذ التنظيمات الإرهابية: ربما تتجه بعض التنظيمات الإرهابية، لاسيما تنظيم “داعش”، إلى محاولة تعزيز نفوذها مجدداً في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، خاصة بعد تراجع هذا النفوذ في الشرق الأوسط، عقب الهزائم التي منيت بها في المنطقة والضربات التي تعرضت لها وفرضت خسائر مادية وبشرية كبيرة عليها. وقد يتزايد هذا التوجه بعد وصول “طالبان” إلى الحكم مجدداً. وقد كان لافتاً أن السلطات الروسية، أعلنت في بداية أكتوبر الماضي، أنها أحبطت هجوماً تفجيرياً خطط له متشدد في منطقة شمال القوقاز. كما نجحت، في 22 من الشهر نفسه، في منع هجوم آخر في إقليم ستافروبول بشمال القوقاز. ويتوازى ذلك مع تصاعد عمليات تنظيم “خراسان” التابع لـ”داعش” في أفغانستان خلال المرحلة التالية على وصول “طالبان” إلى السلطة، بكل ما يمكن أن يفرضه ذلك من تهديدات مباشرة لأمن واستقرار دول المنطقة.
أزمات متجددة
في النهاية، تبقى منطقة آسيا الوسطى والقوقاز مرشحة لمزيد من التصعيد، نتيجة الأزمات القائمة التي تشهدها في الفترة الحالية، والتي يبدو أنها سوف تتفاقم في ظل اتساع نطاق الخلافات بين الدول المعنية بها، وتزايد انعكاسات التفاعلات التي تجري على الساحتين الإقليمية والدولية، خاصة مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، واهتمام العديد من القوى الدولية، على غرار الصين والهند وروسيا، بتعزيز تواجدها فيها.