تهديدات مستمرة:
هل تمكّنت العراق من القضاء على تنظيم “داعش” تماماً؟

تهديدات مستمرة:

هل تمكّنت العراق من القضاء على تنظيم “داعش” تماماً؟



تُعبّر تصريحات عدد من المسئولين العراقيين خلال الأشهر القليلة الماضية عن حالة من الارتياح تجاه ملف القضاء على تنظيم “داعش”، بعد تراجع عمليات التنظيم منذ مطلع عام 2023، وهو ما رصده التحالف الدولي لمواجهة “داعش” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

وعلى الرغم من التصريحات التي تُشير إلى الانتصار على التنظيم، والقضاء على ما يزيد على 90% من قدراته العملياتية، وكان آخرها تصريح قائد “الحشد الشعبي” في مناطق جنوب الموصل إبراهيم المرسومي، في 26 أغسطس الجاري، الذي اعتبر أن “التنظيم انتهى إلى غير عودة”؛ تُثار تساؤلات حول نتائج عمليات مكافحة الإرهاب، والتي ساهمت في خفض مستوى عمليات التنظيم.

سياقات رئيسية

يمكن الإشارة إلى بعض السياقات حيال نشاط تنظيم “داعش” في العراق، في ضوء عدد من التصريحات الرسمية، والتقديرات الخارجية، وذلك على النحو التالي:

1- توالي تصريحات المسئولين العراقيين: بخلاف تصريحات قائد “الحشد الشعبي” بجنوب الموصل، وجّه مسئول رفيع في الحكومة العراقية، وهو مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، رسالة مماثلة خاصة بالقضاء على تنظيم “داعش”.

إذ اعتبر الأعرجي أن بلاده انتصرت على التنظيم الإرهابي، ولكنها -في الوقت ذاته- تواصل العمليات في سياق المعارك الاستخباراتية للحفاظ على ما تحقّق من إنجازات أمنية، وذلك خلال استقبال وزير الدولة لشئون الأمن البريطاني توم توجندهات في 21 أغسطس الحالي.

2- انقسام “داعش” إلى خلايا صغيرة: رغم التأكيدات الرسمية على انتصار العراق على تنظيم “داعش”، والقضاء عليه؛ إلا أنه يتضح استمرار التهديدات المرتبطة بالتنظيم خلال الفترة المقبلة، وهو ما أشار إليه الجيش العراقي، في سياق تأكيد المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء يحيى رسول، القضاء على 99% من قوة “داعش”.

ولكن رسول حدد أبعاد تهديدات تنظيم “داعش”، بأن التنظيم لم يعد قادراً على تنفيذ عمليات كبيرة، بل ينقسم إلى خلايا تتشكل بين اثنين إلى ستة عناصر من التنظيم الإرهابي، بما يشير إلى استمرار قدرة التنظيم على تنفيذ عمليات وإن كانت محدودة على مستوى العدد، أو القدرات العملياتية.

3- تقديرات مجلس الأمن حيال التنظيم: خلافاً للرؤية المتفائلة للمسئولين العراقيين بشأن القضاء على تنظيم “داعش”، فإنّ تقريراً حديثاًلخبراء الأمم المتحدة صدر في 14 أغسطس الجاري،حَوْل النشاط الإرهابي، تطرق إلى أن التنظيم يمتلك ما بين 5 آلاف إلى 7 آلاف عنصر بين دولتي العراق وسوريا، ومعظمهم من المقاتلين.

ولكنّ اللافت أن التقرير أشار إلى تعمّد تنظيم “داعش” خفض عدد عملياته لـ”إعادة التنظيم وتسهيل التجنيد”، وفي حال صحة مثل تلك التقديرات، فإن ذلك يعني أن التنظيم لا يزال قادراً على التماسك داخل العراق وسوريا حتى الآن.

مرحلة جديدة

رغم التباين في تقدير قوة تنظيم “داعش”، وحدود قدراته العملياتية؛ إلا أن ثمة عدداً من المؤشرات تعكس مرحلة جديدة بالنسبة لعمليات مكافحة الإرهاب في العراق، التي تسعى لفرض مزيد من الضغوط على التنظيم خلال الأشهر المقبلة، وفقاً لبعض التحولات في استراتيجية مكافحة الإرهاب، ويتمثل أبرزها في:

1- تراجع النشاط العملياتي لـ”داعش”: من خلال حصر عدد العمليات التي أعلن تنظيم “داعش” مسئوليته عن تنفيذها في العراق منذ مطلع عام 2023، يتضح تذبذب منحنى النشاط العملياتي، وهي سمة مميزة لطبيعة نشاط التنظيم خلال الأعوام القليلة الماضية، وإن كان معدل العمليات تراجع بشكل عام.

ولكن اللافت تراجع معدل النشاط العملياتي خلال شهر يوليو الفائت، وحتى 27 أغسطس الحالي، بواقع 5 عمليات فقط لكل شهر، بما يعني تراجعاً لأكثر من النصف عن معدل العمليات في شهر يونيو الماضي مع تسجيل 11 عملية.

وسجّل شهر أبريل الماضي أعلى معدل للنشاط العملياتي بواقع 16 عملية، قبل أن ينخفض المنحنى إلى النصف تقريباً خلال شهر مايو، وربما ارتبطت زيادة النشاط خلال شهر أبريل بإحصاءات التحالف الدولي لمواجهة تنظيم “داعش” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تشير إلى تراجع معدل العمليات منذ مطلع عام 2023 وحتى الأسبوع الأول من شهر أبريل، مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2022.

وربما يرتبط تراجع النشاط العملياتي لتنظيم “داعش” بتراجع القدرات التمويلية بعد العمليات النوعية التي نفذتها العراق لملاحقة القيادات البارزة في الهيكل التنظيمي.

2- لجوء التنظيم لـ”القتال من أجل البقاء”: يبرز في سياق العمليات التي نفذها تنظيم “داعش” منذ مطلع العام الجاري، غلبة الأنماط الدفاعية في العمليات، ويتضح ذلك من الاعتماد على أنماط تقليدية في عملياته ضد القوات العسكرية المشاركة في مكافحة الإرهاب، سواء الجيش العراقي أو مليشيا “الحشد الشعبي”، وهي عمليات لا تعكس أهدافاً استراتيجية ميدانية للتنظيم.

ولكن يمكن النظر لعمليات تنظيم “داعش” في إطار محاولات استنزاف قدرات الجيش العراقي، وإثبات وجود التنظيم، رغم تصريحات المسئولين العراقيين بالقضاء على “داعش” والانتصار عليه.

وبشكلٍ عام، فإن عمليات تنظيم “داعش” في العراق تأتي في سياق مرحلة “القتال من أجل البقاء”، وفقاً لبعض الأدبيات الغربية في دراسة التمرد، إذ إنها مرحلة تلجأ إليها الفواعل المسلحة من غير الدول، للحفاظ على وجود التنظيم ومواجهة الضغوط المفروضة عليه، بانتظار مرحلة جديدة يمكن فيها استعادة النشاط العملياتي بشكل كبير.

3- التركيز على الجهد الاستخباراتي: منذ عام 2022، اتجهت العراق للتحرك بشكل مكثف لزيادة الاعتماد على الجهد الاستخباراتي في عمليات مكافحة الإرهاب، دون التركيز فقط على العمليات العسكرية التقليدية، وهو تحول مهم في سياق تغيير استراتيجية المواجهات بعد الهيكلة الجديدة لتنظيم “داعش”، التي ركزت على تقسيم العناصر إلى خلايا ومجموعات صغيرة، في إطار التكيف مع المتغيرات الميدانية، والبيئة الضاغطة عقب طرد عناصره من الموصل في عام 2017.

ويُسهم تكثيف الجهد الاستخباراتي، وتوسيع التعاون مع الأجهزة الأمنية في إقليم كردستان، إضافة إلى التعاون مع الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، لضبط الحدود بين العراق وسوريا، وتبادل المعلومات حول انتقال العناصر، وتتبع تحركاتهم، في تحديد كيفية التعامل معهم، سواء من خلال عمليات ميدانية برية، أو قصف جوي، إذ كان التنظيم يستغل الفراغ الأمني بين مناطق كردستان والمحافظات العراقية للتحرك وتنفيذ عمليات.

4- التوسّع في العمليات الاستباقية: اتصالاً بالنقطة السابقة،يُمكن ملاحظة اتجاه قوات الجيش العراقي إلى تنفيذ عمليات استباقية لملاحقة مجموعات التنظيم، والاستفادة من الجهد الاستخباراتي،وتحديداً على مستوى استهداف الملاذات التي يستغلها “داعش”.

وخلال الأشهر القليلة الماضية، نفّذت القوات العراقية من خلال عمليات ميدانية أو قصف جوي هجمات نوعية لتفكيك شبكات وخلايا التنظيم، وعدم انتهاج سياسة رد الفعل على عملياته، خاصةً وأن التنظيم خلال عام 2022 تمكّن من التمركز في محافظة ديالى، وتحديداً في الجبال والمناطق الوعرة، دون مخططات استباقية للتعامل مع تحركات عناصره، بما أسفر عن تحول بعض المناطق في المحافظة إلى بؤر للتنظيم ينطلق منها لتنفيذ عملياته.

5- تسليم المهام الأمنية لوزارة الداخلية: في ضوء التقديرات العراقية لمدى تحسن الوضع الميداني في المواجهات مع مجموعات وخلايا تنظيم “داعش”، فإن العراق تتجه إلى تعزيز دور وزارة الداخلية في استلام مهام الأمن بالمناطق المحررة عقب تحجيم نشاط التنظيم.

ووفقاً للمتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء يحيى رسول، فإن “العمل جارٍ على تسليم الملف الأمني بالكامل لوزارة الداخلية في كافة المناطق”، بما يعكس الرغبة في تحقيق قدر من التكامل في مهام مكافحة الإرهاب، وتركيز الجيش على تأمين المحافظات والمدن من خارجها، لسد الفجوات الأمنية بين المحافظات، وفرض مزيد من القيود على حركة خلايا ومجموعات التنظيم.

تفاؤل حذِر

بعيداً عن الأبعاد الدعائية لتصريحات المسئولين العراقيين بشأن الانتصار على “داعش”، فإنه يجب التمييز بين تراجع النشاط العملياتي للتنظيم، في ضوء توالي عمليات مكافحة الإرهاب الضاغطة عليه، وربما عوامل داخل التنظيم نفسه، والانتصار على التنظيم والقضاء على عناصره، وهو ما قد يتضح خلال الأشهر القليلة المقبلة.

ولكن تسود تخوّفات من اتجاه التنظيم إلى خفض عملياته بشكل متعمد، خاصة وأنه سبق أن تراجع منحنى العمليات الإرهابية قبل أن يتمكن التنظيم من ترتيب صفوفه واستعادة النشاط مجدداً، في ضوء القدرة على التكيف مع المتغيرات الميدانية، كما أن العراق تعتبر استمرار احتجاز عناصر التنظيم في السجون والمخيمات في شمال شرقي سوريا تهديداً مباشراً، في ظل احتمالات تحرر بعض تلك العناصر، ومن ثم منح التنظيم ميزة كبيرة لاستغلال تلك العناصر في استعادة النشاط العملياتي.