المُقايضة:
هل تقوم تركيا بعملية عسكرية جديدة في شمال شرق سوريا؟

المُقايضة:

هل تقوم تركيا بعملية عسكرية جديدة في شمال شرق سوريا؟



تشهد الساحة السورية حالة من التأهب والقلق إزاء تصاعد التصريحات التركية الأخيرة بشأن استعدادها لشن عملية عسكرية جديدة على مناطق الإدارة الذاتية شمال شرقي الفرات، ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”. حيث أكد المراقبون وجود تعاون وتنسيق بين القوات التركية وقادة المليشيات المسلحة في منطقة ادلب، لحشد وتعبئة القوات العسكرية التابعة للجانبين استعداداً لبدء شن الهجمات المُرتقبة؛ الأمر الذي دفع كلاً من النظام السوري والقوات الروسية لتعزيز قواتهما العسكرية في محيط مناطق الحشد التركي، وقيامهما لأول مرة بالاشتراك مع قوات “قسد” في عدة مناورات عسكرية على طول خطوط الجبهة الفاصلة مع الجيش التركي والجيش الوطني.

دوافع التهديد

تَعزو تركيا تهديداتها إلى تزايد خسائر القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها في شمال شرق سوريا بهجمات قوات “قسد” الكردية، ورغبتها في الحد من الضربات التي تتعرض لها في منطقتي “غصن الزيتون” و”درع الفرات”، ولا سيما بعد أن شهدت قوات الأمن التركية في 12 أكتوبر 2021 مقتل ستة أشخاص، بينهم مدنيون، إثر انفجار سيارة مُفخخة في مدينة “عفرين”.

ولكن هناك العديد من الدوافع غير المعلنة التي تسعى تركيا لتحقيقها عبر تنفيذ عملية عسكرية في شمال شرق سوريا، بمناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والتي يمكن تناولها على النحو التالي:

1- توسيع وربط مناطق النفوذ التركي: سيطرت القوات التركية خلال الفترة 2016 – 2019 على عدة مناطق تمتد من “بندر خان” إلى “رأس العين” شرقاً، وكذلك من مدينة “جرابلس” إلى ساحل البحر المتوسط غرباً. بينما ظلت المنطقة بين “بندر خان” و”جرابلس” واقعة تحت سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية. وبالتالي من المتوقع أن تستهدف تركيا 5 مدن حدودية للربط بين المنطقتين الخاضعتين لسيطرتها، والمدن الـ5 هي:

أ- تل رفعت: تقع المدينة بريف حلب الشمالي على مقربة من الحدود التركية، وهي أشبه بغرفة عمليات توجه وتدير معظم الهجمات العسكرية في البلدات والقرى المجاورة لها.

ب- عين العرب: تقع المدينة بريف حلب الشرقي على الحدود مع تركيا، ولها رمزية خاصة بالنسبة لكل من حزب العمال الكردستاني وقوات “قسد”، فهي تُعد معقلاً لكثير من قيادات “قسد”، ومنها انضم العديد من العناصر للحزب الكردي.

ج- منبج: كانت أحد أهم الأهداف بالنسبة للجيش التركي في ريف حلب الشرقي عام 2019، وبالسيطرة عليها تصبح القوات التركية على بعد خطوات قليلة من السيطرة على مدينة “عين العرب”.

د- عين عيسى: تقع المدينة بريف الرقة الشمالي على الطريق الدولي حلب – الحسكة (إم4)، وتكمن أهمية السيطرة عليها في منع الهجمات التي تشنها قوات “قسد” على منطقة “نبع السلام”.

ه- تل تمر: تقع المدينة على الطريق الدولي حلب – الحسكة (إم4)، وهي تضم عدة قواعد ومقار لقوات روسيا و”قسد”، ومنها تنطلق الهجمات والقذائف الصاروخية نحو مناطق النفوذ التركي شرق الفرات.

2- تحقيق مكسب سياسي قبل بدء مفاوضات الأزمة السورية: من المحتمل إجراء محادثات روسية-تركية في أنقرة خلال الأيام القادمة لبحث تطورات الملف السوري، حيث يسعى الرئيس التركي لإعادة تكرار استراتيجية المقايضة التي قامت بها تركيا خلال عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” عندما قايضت شرق مدينة حلب بمنطقتي “الباب” و”جرابلس”، وكذلك عندما فرضت سيطرتها على منطقة “عفرين” ذات الأغلبية الكردية مقابل مدينة “الغوطة الشرقية”، ويبدو أن “أردوغان” قد يسعى لاستغلال ملف أزمة “إدلب” على طاولة المفاوضات مع روسيا والنظام السوري، مقابل تمكينه من مدينة “تل رفعت” وبعض المناطق الشمالية الأخرى المُتاخمة للحدود التركية.

3- امتلاك ورقة ضغط على الولايات المتحدة وروسيا: قد يسعى الرئيس التركي من خلال استعراض نفوذه وقدراته العسكرية الميدانية في مناطق نفوذ كل من قوات “قسد” المدعومة من أمريكا، وقوات النظام السوري المدعومة من روسيا؛ للضغط على أمريكا وروسيا، سواء للالتزام بتعهداتهما السابقة بشأن حماية الحدود التركية من اعتداءات قوات “قسد” الكردية، أو من خلال إبرام تعهدات إضافية تضمن حماية القوات التركية في مناطق نفوذها.

4- حشد التأييد المحلي قبل الانتخابات المقبلة: مع اقتراب موعد الانتخابات القادمة في تركيا وسط حالة من التخبط والاضطرابات الداخلية التي تعيشها الإدارة التركية بسبب تآكل قاعدة شعبية “أردوغان” وحزبه الحاكم، والاستياء من سوء إدارة بعض الملفات الخارجية والداخلية والتي على رأسها الملف الاقتصادي؛ يسعى “أردوغان” لحشد الدعم المحلي وزيادة أسهمه في الانتخابات القادمة، واستمالة أصوات الناخبين القوميين والمحافظين من خلال استعراض خطط وترتيبات حماية الأمن القومي التركي من تهديدات “حزب العمال الكردستاني” الانفصالية، وتأمين عناصر القوات التركية في سوريا من هجمات واعتداءات القوات الكردية، لا سيما على الحدود التركية – السورية.

تحديات قائمة

تواجه ترتيبات العملية العسكرية التركية العديد من التحديات والعقبات التي قد تحول دون تنفيذها. ويمكن تناول أبرز تلك التحديات على النحو التالي:

1- الرفض الأمريكي – الروسي: نظراً لاختلاف الظروف الميدانية والسياسية في سوريا، والتي باتت أكثر تضارباً وتعقيداً عما كانت عليه أثناء قيام تركيا بعملياتها السابقة، نتيجة تعدد الفواعل الدولية وتداخل وتعارض مصالح جميع الأطراف؛ فقد أمسى من الصعب حصول تركيا على الضوء الأخضر لشن العملية التي تُنذر بها، واجتياح المزيد من المناطق في شمال وشرق سوريا، ولا سيما في ظل رفض أمريكا وروسيا، الأمر الذي يفرض على تركيا الدخول في مواجهة مع القوتين في حال تمددت قواتها العسكرية شرقاً أو غرباً من مناطق نفوذها الحالية، وهو ما يُعتبر مجازفة سياسية وعسكرية واقتصادية لن تستطيع تركيا تكبد كلفتها.

فمن جانبها، لن تقبل الولايات المتحدة أي تهديد لمصالحها ومناطق نفوذها، ولن تقبل بخسارة قوات “قسد” الحليفة لها في سوريا، والتي تعول عليها بشكل كبير في مواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي. ومن ناحية أخرى، لن تسمح روسيا بأي تواجد دائم للقوات التركية في أي نقطة على الطريق الدولي حلب – الحسكة (أم4)، ناهيك عن أن تركيا لن تتمكن من اتخاذ أي خطوات توسعية جديدة بضمان موافقة روسية دون التوصل فيما بينهما لحل أزمة “إدلب”.

2- التقارب الروسي – الكردي: رغم اختلاف أجندة كل من تركيا وروسيا في سوريا؛ إلا أنهما يتفقان على رفض نفوذ القوات الأمريكية في شمال شرقي سوريا، ودعمها لقوات “قسد”، وهذا بالتحديد ما يُثير مخاوف الجانب الكردي. فمع تزايد النفوذ الروسي، وتصاعد التهديدات التركية، لا يبقى أمام الجبهة الكردية سوى خيارات محدودة، لعل أقربها هو التقرب من روسيا كحليف يضمن لها الحصول على بعض الامتيازات في حال عودة قوات النظام السوري إلى مناطق شمال شرقي سوريا. وذلك مقابل منح روسيا بعض الامتيازات الاقتصادية والميدانية لكسب موقفها في مواجهة التهديدات التركية، لا سيما في ظل عدم إبداء الولايات المتحدة حتى الآن أي موقف إزاء التقارب بين “قسد” والنظام السوري، الأمر الذي يزيد مخاوف الأكراد من انسحاب أمريكي على غرار الانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية من بعض المناطق في عهد “ترامب”، أو تكرار سيناريو الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان.

3- عدم تحمل كُلفة العملية العسكرية: رغم حصول “أردوغان” على موافقة برلمانية أواخر شهر أكتوبر 2021 بأغلبية الأصوات بشأن إرسال قوات تركية لتنفيذ عمليات عسكرية خارج البلاد لمدة عامين إضافيين، ومصادقة كلٍّ من “حزب العدالة والتنمية” و”حزب الحركة القومي” و”حزب الخير” على مذكرة القرار؛ إلا أنه على الجانب الآخر تم رفض المُذكرة من قبل حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب والحزب الديمقراطي الموالي للأكراد.

وبالتالي، في ظل الاستفزازات المُتزايدة للمعارضة، وتدهور وضع الليرة التركية لأسوأ أداء خلال هذا العام؛ فمن المتوقع أن يزداد تآكل شعبية “أردوغان” وحزبه الحاكم، بما يُهدد فرص نجاحه في الانتخابات القادمة، لا سيما أن تلك العملية العسكرية ستكون لها كُلفة بشرية واقتصادية عالية على غرار العمليات التي سبقتها، إن لم تكن أعلى في حال اضطرت القوات التركية للدخول في مواجهة مع القوات الروسية أو الأمريكية.

مصالح متشابكة

ختاماً، نظراً لتعدد التحديات والعقبات التي تواجه ترتيبات المسار العسكري التركي في شمال شرق سوريا، نتيجة تشابك وتعقد المصالح المحلية والإقليمية والدولية على الساحة السورية، وكذلك تزايد توترات الداخل التركي والقلق من عدم القدرة على تحمل كُلفة الإجراء العسكري سواء السياسية أو الاقتصادية؛ فإن ذلك يفرض على تركيا الاقتراب من الحل الدبلوماسي، ولا سيما خلال المحادثات الروسية-التركية التي من المُقرر عقدها في أنقرة خلال الأيام القادمة لبحث تطورات الملف السوري.