أثارت السياسة الجديدة التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية والقائمة على إجراء تغيير في مستوى وطبيعة انتشار قواتها العسكرية بما يتواكب مع اقتراب موعد انتهاء الانسحاب من أفغانستان، والتركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادي لمواجهة الصعود الصيني، وتراجع اهتمام إدارة الرئيس جو بايدن ببعض ملفات منطقة الشرق الأوسط خلال الأشهر الأولى لها في البيت الأبيض، مخاوف لدى الأطراف الحليفة لواشنطن في دول الصراعات العربية، التي لم تعد تستبعد أن تُقدِم الأخيرة على اتخاذ خطوات إجرائية جديدة في هذه الدول على غرار ما قامت به في أفغانستان.
ويبدو أن إدارة بايدن بدأت في محاولة استيعاب تلك المخاوف، على نحو انعكس في الزيارة التي قام بها مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون الشرق الأوسط جوى هود إلى مدينة القامشلي شمال شرقى سوريا، في 26 أغسطس الجاري. ورغم أن العنوان الرئيسي للزيارة يتمثل في دعم جهود استئناف المباحثات بين الأحزاب والقوى الكردية، والتي توقفت منذ عشرة أشهر، للتوصل إلى اتفاق سياسي وتشكيل إدارة مدنية تمثل جميع مكونات المنطقة، إلا أن المشهد الأفغاني لم يكن، على الأرجح، غائباً عن الزيارة، على نحو يوحي بأن واشنطن تسعى عبر تلك الخطوات إلى طمأنة حلفائها في دول الصراعات العربية من الارتدادات المحتملة للانسحاب من أفغانستان.
قلق الحلفاء
بدأت بعض الأطراف الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية في توجيه تحذيرات من التداعيات الإقليمية السلبية التي يمكن أن تفرضها أية خطوات أمريكية شبيهة بما قامت به واشنطن في أفغانستان. ففي العراق، هناك مخاوف من أن يؤدي انسحاب أمريكي مماثل إلى استيلاء الميليشيات المدعومة من إيران على السلطة، أو عودة تنظيم “داعش” مجدداً، بعد النجاحات التي حققتها القوات الأمنية العراقية- بدعم من القوات الأمريكية- في احتواء نفوذه، أو اندلاع حرب أهلية محتملة، لاسيما بعد ما شهدته العراق من تطورات في أعقاب عملية الانسحاب الأمريكي في عام ٢٠١١.
بل إن اتجاهات عديدة اعتبرت أن ما حدث في العراق في منتصف عام 2014 عندما اجتاح “داعش” مناطق واسعة في الدولة، تكرر في أفغانستان بعد أن تمكنت “طالبان” من السيطرة سريعاً على معظم الأراضي الأفغانية، وبالتالي قد يعاد تكراره من جديد داخل العراق في حالة ما إذا اتخذت خطوات مشابهة من جانب واشنطن، دون أن تكون هناك مؤشرات واضحة على الأرض توحي بأن مؤسسات الدولة قادرة على ملء الفراغ الذي سوف ينتج عن هذا الانسحاب. وربما يكون ذلك هو أحد أسباب الجدل الحالي المتصاعد بين حكومة مصطفى الكاظمي وبعض القوى السياسية والميليشيات المسلحة حول مدى ومستوى وجود بعض القوات الأمريكية في المرحلة القادمة.
كما بدأت مخاوف أكراد العراق تتزايد بسبب ما اعتبرته اتجاهات كردية “مواقف أمريكية مُسبقة” ترشح إمكانية حدوث سيناريو مشابه، رغم أن هناك اتجاهات مقابلة ترى أن هناك اختلافات كبيرة بين الحالتين تقلص من احتمال “استنساخ” السيناريو الأفغاني من جديد. ويتكرر الأمر نفسه في حالة سوريا، حيث لا يخفي الأكراد مخاوفهم- رغم رسائل الطمأنة الأمريكية- إزاء الارتدادات المحتملة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، خاصة أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى فقدان المكاسب الاستراتيجية التي حققها الأكراد في ظل الدور البارز الذي مارسوه في الحرب ضد تنظيم “داعش”، فضلاً عن أنه سوف يدفع أطرافاً عديدة إلى محاولة ملء الفراغ الناتج عن أى انسحاب محتمل في هذا الصدد.
عقبات متعددة
مع ذلك، يمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة ربما تقلص من احتمالات تكرار “النموذج الأفغاني” في حالات أخرى بالمنطقة، ويتمثل أبرزها في:
1- تزايد عدم اليقين بشأن مستقبل أفغانستان: خاصة أنه لا توجد مؤشرات توحي بأن حركة “طالبان” تستطيع السيطرة على حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي تنتشر في الدولة، والتي بدت جلية في العمليات الإرهابية التي يتعرض لها مطار كابول منذ 25 أغسطس الجاري.
2- الاستمرار في مناوئة أدوار الخصوم: تبدي الإدارة الأمريكية اهتماماً أكبر بالأدوار التي يقوم بها خصومها في مناطق الصراعات في الشرق الأوسط، على غرار إيران وروسيا، حيث لا يبدو أنها سوف تتراجع بسهولة عن محاولة احتواء هذه الأدوار، لاسيما أنها تمس مصالحها بشكل مباشر، على نحو يبدو جلياً في اتجاهها إلى مطالبة إيران بتوسيع نطاق التفاوض في فيينا ليضم التدخلات الإقليمية إلى جانب الاتفاق النووي. وقد كان لافتاً أنه خلال الأشهر الأولى من رئاسته لم يتجه الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تقليص مستويات القوات الأمريكية في سوريا والعراق. وقد كان سبب تردده في هذا السياق مرتبطاً بالهجمات التي شنتها الميليشيات العراقية المدعومة من إيران على القوات والمصالح الأمريكية.
3- تصاعد حدة الانتقادات لسياسات الرئيس بايدن: والتي وصلت إلى درجة أن بعض المشرعين الأمريكيين طالبوا عدداً من أعضاء الإدارة بتقديم استقالاتهم، ودعوا الأخيرة إلى تأجيل اتخاذ أى خطوات تتعلق بتخفيض القوات الأمريكية في الشرق الأوسط. بل إن هناك اتجاهات أمريكية بدأت تشير إلى أن قرار وطريقة الانسحاب من أفغانستان سوف يؤديا إلى تقليص مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية لدى حلفائها، وقد بدا ذلك جلياً عندما واجه مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، أسئلة خلال الأسبوع الماضي حول ما يعنيه الانسحاب من أفغانستان بالنسبة لدول مثل إسرائيل وكوريا الجنوبية وتايوان.
4- طبيعة الانتشار العسكري الأمريكي في المنطقة: أشارت تحليلات أمريكية إلى أن بعض العقبات التي تقف أمام انسحاب القوات الأمريكية من مناطق الصراعات في الشرق الأوسط يرتبط بالطبيعة المتكاملة لنشر القوات الأمريكية في المنطقة، حيث أن العدد والنطاق الجغرافي لنشر تلك القوات يرهقان أى جهود قد تبذل في هذا الصدد.
5- الارتدادات الإقليمية المحتملة للانسحاب: كشف الانسحاب الأمريكي من العراق في عام ٢٠١١ أنه لم يساعد في تعزيز الاستقرار في المنطقة، بل أنتج تداعيات عكسية، على غرار تصاعد حدة الأزمات والصراعات الداخلية، وبروز التنظيمات الإرهابية، مثل تنظيم “داعش”، وهو ما فرض على الولايات المتحدة الأمريكية إعادة إرسال قواتها مرة ثانية للعراق للقضاء على هذا التنظيم الإرهابي.
في النهاية، يمكن القول إن التطورات التي شهدها أفغانستان في أعقاب الانسحاب الأمريكي بعد عقدين من حرب أمريكية مُكلِّفة مالياً وبشرياً، وإعادة سيطرة حركة “طالبان” على كابول، بالتوازي مع الانتقادات التي وجهت للإدارة ومسئوليها لعدم صياغة استراتيجية متماسكة ومتكاملة لمرحلة ما بعد الانسحاب من أفغانستان، كل ذلك سوف يدفع الإدارة الأمريكية إلى إعادة النظر مجدداً في سياساتها تجاه منطقة الشرق الأوسط، لاسيما فيما يتعلق بالخطط المطروحة لتقليل الوجود العسكري بها، ونقل بعض القوات منها إلى منطقة المحيطين الهندي والهادي، لاسيما في ظل تعقد الأزمات في المنطقة، ومسارعة العديد من القوى المناوئة لها إلى ملء الفراغ، فضلاً عن تعاقد العديد من دول المنطقة مع شركات ضغط (لوبيات) أمريكية للتأثير على سياسات الإدارة الأمريكية تجاه المنطقة، والتأكيد على أهمية الدور الأمريكي في الشرق الأوسط للحفاظ على أمنه واستقراره.