فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، في ٢٨ يوليو الفائت، عقوبات على ثمانية سجون سورية وخمسة مسئولين أمنيين، إلى جانب جماعة “أحرار الشرقية” المسلحة السورية، المدعومة من تركيا، والتي تعمل في شمال سوريا، لاتهامها بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين. وبالتوازي مع ذلك، فرضت وزارة الخزانة عقوبات على شخص يقيم في تركيا ويقدم دعماً لتنظيم “القاعدة”، وشخص آخر يقيم في سوريا ويقدم دعماً لـ”هيئة تحرير الشام”.
يأتي قرار وزارة الخزانة الأمريكية بفرض عقوبات على جهات داخل سوريا وخارجها، في وقت توجه انتقادات عديدة لإدارة الرئيس جو بايدن، بأنها لم تبلور استراتيجية واضحة المعالم تجاه الأزمة السورية، رغم مرور نحو ثمانية أشهر على توليه السلطة رسمياً، حيث لم يعين الرئيس – حتى الآن – أحد الدبلوماسيين المخضرمين ليكون مبعوثاً له إلى سوريا، بينما عين مبعوثاً خاصاً لملفى إيران واليمن، كما لم تفرض إدارته عقوبات ترتبط بقانون قيصر. وأشارت الأطراف التي وجهت تلك الانتقادات أيضاً إلى أن وزارة الخزانة أصدرت، في 19 يونيو الماضي، إعفاءات للنظام السوري لمساعدته على مواجهة فيروس “كورونا”، وكان من بين الجهات التي شملتها تلك الإعفاءات شركتان قريبتان من الأخير، بينما فرض الرئيس السابق دونالد ترامب، منذ دخول قانون قيصر حيز التنفيذ في يونيو ٢٠٢٠، عقوبات مرتبطة بالقانون ضد ١١٣ فرداً ومؤسسة حتى شهر ديسمبر الماضي.
أهداف عديدة:
يمكن القول إن الإدارة الأمريكية سعت عبر فرض تلك العقوبات بعد مرور أكثر من نصف عام على وصول الرئيس جو بايدن إلى السلطة، إلى توجيه جملة من الرسائل، التي يتمثل أبرزها في:
1- تحذير إيران: يبدو أن الإدارة الأمريكية حاولت من خلال تلك الخطوة توجيه رسالة مباشرة إلى إيران، بأن إجراء المفاوضات حول الاتفاق النووي في فيينا مع مجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة، لا يعني تغاضيها عن التحركات التي يقوم بها النظام السوري، بمساعدة من جانب الأخيرة والميليشيات الموالية لها، والتي ترى أنها تستوجب، في رؤيتها، فرض عقوبات جديدة عليه.
وبمعنى آخر، فإن الإدارة الأمريكية باتت ترى أن بعض الإجراءات التي اتخذتها سواء تجاه إيران أو النظام السوري، على غرار الإعفاءات التي أصدرتها لمساعدة السلطات السورية على مواجهة جائحة “كورونا”، ربما فهمتها الأولى على نحو خاطئ، بشكل دفعها، إلى جانب أسباب أخرى، للإمعان في الإجراءات التصعيدية التي تتخذها سواء على مستوى البرنامج النووي، أو على صعيد الدعم المقدم لحلفائها في المنطقة.
واللافت في هذا السياق، هو أن الإدارة تعرّضت أيضاً لانتقادات من جانب بعض المشرعين الذين اتهموها بتجاهل فرض عقوبات على النظام السوري وفقاً لقانون قيصر من أجل “استرضاء” إيران في الوقت الذي تجري مباحثات معها في فيينا بهدف تعزيز فرص استمرار العمل بالاتفاق النووي الذي توصلت إليه مجموعة “5+1” وإيران في 14 يوليو 2015.
2- تبني سياسة مغايرة لإدارة ترامب: أعلن الرئيس جو بايدن منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض، في 20 يناير الماضي، عن تبني إدارته سياسة مغايرة لتلك التي اتبعتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب. وقد كانت قضايا السياسة الخارجية أحد محاور الخلاف بين بايدن وترامب خلال الحملة الانتخابية، حيث اعتبر الأول أن السياسة الخارجية التي تبنتها إدارة الأخير قوَّضت المصالح والأمن القومي الأمريكي.
3- مناوئة تركيا: رغم أن القسم الأكبر من العقوبات الأمريكية الجديدة ركز على بعض المسئولين والجماعات التابعة للنظام السوري، إلا أنها لم تلق تجاوباً ملحوظاً من جانب تركيا، وهو ما يمكن تفسيره في إطار تزايد قلق الأخيرة من تركيز الإدارة الأمريكية على القضايا الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان، على نحو يمكن أن يساهم في تحويل هذا الملف إلى محور خلاف رئيسي بين الطرفين خلال المرحلة القادمة، لاسيما في ظل التحفظات التي تبديها الإدارة الأمريكية على السياسة التي تتبناها السلطات التركية في التعامل مع قوى المعارضة والناشطين السياسيين والأكراد، فضلاً عن تركيزها، بالتوازي مع ذلك، على الانتهاكات التي ترتكبها الجماعات المتطرفة المدعومة من تركيا، والتي تستهدف الأكراد والقوميات الأخرى.
وقد كان لافتاً أن العقوبات طالت جماعة “أحرار الشرقية” المدعومة من تركيا، بسبب الانتهاكات التي ترتكبها ضد الأكراد السوريين، بما في ذلك القتل غير المشروع والاختطاف والتعذيب ومصادرة الممتلكات الخاصة. وقد أكد البيان الذي أصدره المكتب التابع لوزارة الخزانة الأمريكية على أن “تلك الأعمال المروعة تفاقم من معاناة السكان الذين عانوا النزوح الجماعي بشكل متكرر”، كما أشار إلى أن الجماعة ضمت في صفوفها أعضاءً سابقين في تنظيم “داعش”.
وبمعنى آخر، فإن فرض تلك العقوبات قد يمثل إشارة من جانب الإدارة الأمريكية بأنها قد تتبنى السياسة نفسها تجاه بعض الأطراف الأخرى، ومنها تركيا، خاصة أن الخلافات العالقة بين الطرفين لا تبدو ثانوية ولا يمكن تسويتها بسهولة، إلى جانب أن الأولى حريصة على تأكيد أنها لن تتغاضى عن الممارسات السلبية التي تقوم بها الأخيرة، لاسيما فيما يتعلق بدعم بعض الجماعات والميليشيات المتطرفة والتمدد داخل الأراضي السورية، على غرار ما كان قائماً في عهد إدارة ترامب.
4- انخراط مستمر: سعت الإدارة الأمريكية من خلال تلك العقوبات إلى تأكيد استمرار انخراطها في الجهود المبذولة لمحاربة الإرهاب، خاصة في ظل انشغالها في الوقت نفسه باتخاذ إجراءات بتقليص الوجود العسكري في بعض المناطق، على نحو دفع اتجاهات عديدة إلى التحذير من أن ذلك قد يدفع التنظيمات الإرهابية إلى التحرك من أجل ملء الفراغ، وهو ما تدركه الإدارة الأمريكية، وحاولت عبر الخطوة الأخيرة الإشارة إلى أنها لن تسمح به.
ختاماً، يمكن القول إن فرض العقوبات الأمريكية الجديدة على سوريا ربما يمثل بداية لمرحلة سوف تشهد تغييراً في السياسة الأمريكية تجاه التطورات في سوريا، لاسيما في ظل بروز اتجاهات أمريكية تدعو إلى ممارسة مزيد من الضغوط على إيران عبر تبني مثل هذه الخطوات، التي يمكن أن تركز مستقبلاً على قطاعات مثل واردات النفط الخام، وهو القطاع الذي تساهم إيران فيه بشكل كبير، باعتبار أن تلك الواردات تمثل أحد محاور دعمها لحلفائها في سوريا والمنطقة.