تحول محتمل:
هل تعرّض الجولاني لمحاولة انقلاب من داخل “هيئة تحرير الشام”؟

تحول محتمل:

هل تعرّض الجولاني لمحاولة انقلاب من داخل “هيئة تحرير الشام”؟



رغم نفى “هيئة تحرير الشام” حدوث محاولة انقلاب داخلية على زعيمها أبو محمد الجولاني (21 و22 سبتمبر الفائت)، إلا أنه يبقى طرحاً غير مستبعد من الناحية النظرية، خاصة في ظل الأزمات الداخلية التي تشهدها “الهيئة” في ضوء عدم التجانس والتماسك الداخلي بفعل تحولات الجولاني وتبنيه نهجاً “براجماتياً”، إضافة إلى إقصاءه المخالفين عبر جهاز أمني يدين له بالولاء، فضلاً عن توالي الانشقاقات من بعض القيادات المنافسة.

تواجه مليشيا “هيئة تحرير الشام” أزمات متلاحقة، في سبيل محاولاتها إحكام سيطرتها التامة على الوضع في محافظة إدلب شمال شوريا، عبر تنفيذ مشروع زعيم “الهيئة” أبو محمد الجولاني في الانفراد بحكم المحافظة، من خلال تشكيلات وهيئات ذات طابع مدني، مثل “حكومة الإنقاذ” المحسوبة على “الهيئة”.

وخلال الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر الفائت، تصدرت “الهيئة” المشهد في سوريا، بالحديث عن وقوع انقلاب داخلها، وتحديداً لإزاحة الجولاني عن القيادة. وبغض النظر عن صحة محاولة الانقلاب، فإن “الهيئة” تشهد بين حين وآخر أزمات داخلية، تتعلق باختلافات بين قياداتها، بعضها يتصل برفض سياسات الجولاني، في ظل التحولات التي طرأت على توجهاته منذ إعلان الانفصال عن تنظيم “القاعدة”، حيث يرى بعض الأطراف الداخلية أنه يتبع نهجاً “براجماتياً” يتعارض مع توجهات تيار “السلفية الجهادية”.

أبعاد رئيسية

يُمكن الوقوف على أبعاد الأنباء التي أشارت إلى محاولة انقلاب داخل “الهيئة” ضد الجولاني، من خلال عدد من النقاط الرئيسية التي تتمثل في:

1- حالة استنفار أمني غير مسبوقة: بمقارنة التقارير الإعلامية وبيان “هيئة تحرير الشام” حيال محاولة الانقلاب؛ فإن ثمة اتفاقاً على ما شهدته محافظة إدلب مساء يوم 21 سبتمبر 2022 وحتى الساعات الأولى من اليوم التالي، من حالة استنفار أمني غير مسبوقة، وُصفت بأنها “الأكبر” في المحافظة منذ سنوات. وفي حين ذهبت التفسيرات إلى أنها محاولة للسيطرة على انقلاب داخل “المليشيا” لإزاحة الجولاني من منصبه، خاصة مع الإشارة إلى قطع خدمة الإنترنت خلال فترة الاستنفار الأمني؛ إلا أن “الهيئة” أشارت في بيان رسمي إلى أن الاستنفار الأمني ارتبط بضبط الأمن وعدم إثارة الفوضى في ظل ما وصفته بـ”خلافات عائلية بين مُهجرين من مدينة حماة وآخرين في منطقة إدلب”.

2- نفي سريع ومحاولة التهدئة: يتضح من خلال بيان “الهيئة”، الذي نفى وجود محاولة انقلاب على الجولاني، استجابة سريعة للرد على أنباء محاولة الانقلاب التي أشار إليها عدد من التقارير الإعلامية المحلية والإقليمية، وفقاً لما تناقلته حسابات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيق “تليجرام”، ولكن النفي ومحاولة احتواء تأثيرات هذه الأنباء ربما أضفى وجاهة خاصة على تلك التقارير، خاصة أنه استهدف ليس فقط سكان محافظة إدلب، وإنما أيضاً عناصر “الهيئة” نفسها، لا سيما وأن أنباء محاولة الانقلاب ارتبطت بقياديين بارزين هما مظهر الويس وأبو ماريا القحطاني، وملاحقتهما من قبل الجهاز الأمني التابع لـ”الهيئة” حتى الحدود السورية-التركية. وفي سياق نفي القحطاني صحة الأنباء التي ربطت اسمه بمحاولة الانقلاب، نشر صورة تجمعه مع الجولاني للتأكيد على عدم وجود خلافات بينهما، ولكن القحطاني لم ينفِ صراحة عدم وجود محاولة انقلاب، أو على الأقل أزمة داخل “الهيئة”.

3- اهتمام الأطراف المناوئة لـ”الهيئة”: رغم تداول أنباء محاولة الانقلاب على الجولاني من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعات وقنوات عبر تطبيقي “واتساب” و”تليجرام”، والتي ربما لا يرتبط أغلبها بشخصيات معروفة، وإنما تستخدم أسماء مستعارة لنشر الأخبار فيما يتعلق بالشمال السوري؛ إلا أن بعض القيادات في كيانات مناوئة لـ”الهيئة” مثل ما يُسمى “الجيش الوطني”، أشارت إلى وجود محاولات انقلاب داخل “المليشيا” ضد الجولاني، ربما في محاولة للضغط على زعيم “الهيئة” الذي تشن عناصره هجمات على الفصائل والمليشيات في محافظة إدلب وخارجها، بغرض فرض السيطرة على المحافظة تماماً ومداخلها. إذ شنّت “الهيئة” هجوماً على مناطق تمركزات مليشيات “الجبهة الوطنية للتحرير” التابعة لما يُسمى “الجيش الوطني” المحسوب على المعارضة، في بلدة سرمين ومدينة سراقب، والأخيرة تقع تحت سيطرة الجيش السوري، بعد أنباء محاولة الانقلاب بأيام قليلة.

أزمات عديدة

في سياق الحديث عن أنباء محاولة الانقلاب على الجولاني، يمكن الإشارة إلى مجموعة من العوامل التي يمكن أن تُعزز هذه الأنباء أو على الأقل تشير إلى وجود أزمة داخل “الهيئة”، وذلك كالتالي:

1- عدم التماسك الداخلي في “الهيئة”: في ظل التحولات التي شهدتها “الهيئة”، بداية من لحظة التأسيس باسم “جبهة النصرة” والولاء لمشروع “الجهاد العالمي”، وعلاقاتها بتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” بقيادة أبو بكر البغدادي، ثم الانفصال عنه، وإعلان البيعة للزعيم السابق لتنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، قبل إعلان الانفصال عن “القاعدة”، كمؤشر على الاهتمام بالقضايا المحلية السورية، وإعلان التخلي عن مشروع “الجهاد العالمي”، ومع كل تحول في مسار الكيان الذي يتزعمه أبو محمد الجولاني؛ فإن ثمة تداعيات على الكيان نفسه، وتحديداً على مستوى العناصر والكيانات المنضوية تحت رايته.

إذ تضم “الهيئة” بصورتها الحالية عناصر سورية وأخرى أجنبية، والأخيرة انضمت لهذا الكيان منذ بداية ظهوره تحت اسم “جبهة النصرة”، بفعل تمثيل هذا الكيان لتيار السلفية الجهادية، والانتماء لمشروع “الجهاد العالمي”، كما أن ثمة كيانات ومليشيات اندمجت في “الهيئة” بفعل السبب ذاته، ولكن مع الانفصال عن “القاعدة” بدا أن ثمة أزمات داخلية تواجهها، ليظهر تدريجياً قدرٌ من عدم التماسك داخل “الهيئة”، خاصة مع تصاعد الأصوات المطالِبة بطرد العناصر الأجنبية من سوريا.

2- توالي الانشقاقات لبعض القيادات: تشهد “الهيئة” بين حين وآخر، انشقاق بعض القيادات، على خلفية اعتراضات بعضهم على مسارات الجولاني، وكان أحدث مظاهر الانشقاقات استقالة قيادي يُدعى أبو الفتح الفرغلي الذي أعلن هذه الاستقالة بعد حديث عن مشاركته في محاولة انقلاب على القيادة، وقال: “بسبب كثرة الأسئلة في المجموعات العامة وعلى الخاص، وقطعاً لدابر الشائعات، تعين أن أُعلن عن تقديم استقالتي من المجلس الشرعي لهيئة تحرير الشام”. وسبق الفرغلي حديث عن انشقاقات لعدد من القيادات مثل أبو الحارث المصري وآخرين. وكانت استقالة قيادي يُدعى أبو العبد أشداء بمثابة أزمة بالنسبة لـ”الهيئة” في ظل إطلاق اتهامات لقياداتها بارتكاب عمليات فساد مالي وإداري وإهمال عناصرها، في تسجيل مرئي باسم “كي لا تغرق السفينة” عام 2019.

3- إقصاء الجولاني للكوادر المعارضة له: تبنى الجولاني نهجاً داخل “الهيئة” يقضي بإقصاء وعزل المخالفين له في التوجهات التي صاغتها تحولاته “البراجماتية” خلال السنوات القليلة الماضية، على الرغم من أن بعضهم كان مسانداً له في مسارات الانفصال عن “القاعدة” وإضعاف الفصائل والمليشيات المخالفة له. وهنا يمكن الإشارة إلى تمكّن الجولاني من تشكيل جهاز أمني لفرض السيطرة على محافظة إدلب وعلى “الهيئة” ككل، من خلال ولاء تلك المجموعات له، وإبعاد المخالفين له في الرأي عن القيادات العليا، لضمان السيطرة الداخلية، وعدم المساهمة في بروز توجهٍ عام بين عناصر “الهيئة” مناهض له، خاصة أن بعض التقارير الإعلامية المحلية أشارت إلى أن الجولاني أزاح عدداً من القيادات مثل أبو الفتح الفرغلي وغيره، من مناصبهم في الهيئات الشرعية، وحولهم إلى العمل العسكري، وهو ما كان مثار رفض من جانبهم على نحو دفعهم إلى الانشقاق عن “الهيئة”.

4- تأثيرات براجماتية زعيم “الهيئة”: حاول الجولاني إبراز التحولات المزعومة إلى “المدنية” في سياساته بمحافظة إدلب، بما يُسهم، في رؤيته، في تخفيف الضغوط المفروضة عليه من قبل الأطراف الدولية والإقليمية، وتغيير الصورة النمطية باعتبار “الهيئة” تنظيماً إرهابياً. وقد اتضح ذلك في اجتماع الجولاني مع عددٍ من الشخصيات المسيحية، وهو ما يُعد تحولاً في توجهات زعيم “الهيئة”. إلا أن ذلك أثار هجوماً على الجولاني من أطراف منشقة عن “الهيئة” تُصنف بأنها أكثر تشدداً، وقد يكون لهذه الخطوة تأثيرات على عناصر حالية داخل “الهيئة”، كما أن الانفتاح المتزايد على تركيا، وسياساتها في سوريا، كان مثار انتقادات أيضاً من قبل عدد من القيادات، وفقاً لتقارير إعلامية محلية.

5- استمرار ملاحقة “الجهاديين” المخالفين: اتّبع الجولاني في سياق محاولاته إحكام السيطرة على إدلب خلال السنوات القليلة الماضية، نهجاً يعتمد على إضعاف الأطراف المنافسة له على السيطرة، أو المخالفة لتوجهات مشروعه الجديد في سوريا، بعد جملة من التحولات الفكرية، ودائماً ما توجه إلى الجولاني اتهامات بتصفية “المشروع الجهادي” في سوريا، من خلال ملاحقة واستهداف قيادات وعناصر تنظيم “حراس الدين” الموالي لتنظيم “القاعدة”، كما تُوجَّه له اتهامات بالضلوع في تسليم قيادات من “التيار الجهادي”، سواء من “حراس الدين” أو تنظيم “داعش”، للولايات المتحدة الأمريكية، لتصفيتهم، خاصة أن استهداف زعيمي “داعش” كان في محافظة إدلب في مناطق سيطرة “الهيئة”. ومن شأن مشهد تصفية المخالفين أن يثير أطرافاً وعناصر داخل “الهيئة”، وبالتالي زيادة حالة الاستياء من الجولاني.

مسار قائم

وأخيراً، في ضوء العوامل التي تعزز وجود خلافات داخل “هيئة تحرير الشام” بفعل سياسات أبو محمد الجولاني، فإن محاولة الانقلاب غير مستبعدة نظرياً، من دون الجزم بصحتها، بعد أن أشارت إليها تقارير إعلامية أواخر شهر سبتمبر الفائت. إلا أن حالة الاستنفار الأمني تعكس وجود تحديات غير اعتيادية داخل محافظة إدلب في ذلك التوقيت، وربما ترتبط باحتواء حالة تمرد محدودة داخل “الهيئة” أو خطوة استباقية لملاحقة بعض العناصر المناوئة للجولاني.