مؤثّرات استراتيجية:
هل تصبح موريتانيا بوابة الناتو إلى الساحل الأفريقي؟

مؤثّرات استراتيجية:

هل تصبح موريتانيا بوابة الناتو إلى الساحل الأفريقي؟



أبدى حلف شمال الأطلنطي “الناتو” مؤخراً اهتماماً متزايداً بموريتانيا، تعزز أكثر خلال قمته الأخيرة في مدريد. وقد لفت الحلف الأنظار بدعوته موريتانيا، مُظهِراً بذلك اهتمام الغرب بالقارة الأفريقية، والأجزاء الغربية منها على وجه الخصوص. وتقود إسبانيا مبادرة للتقارب بين موريتانيا والناتو؛ إذ ترى مدريد أن الخطر يأتي من الجنوب، كما يأتي من الشرق؛ في إشارة إلى حالة عدم الاستقرار التي قد تنفجر في منطقة الساحل الأفريقي، مما جعل الحلف يُعزز ما أسماه “الجناح الجنوبي” له.

على مدى ما يقارب ثمانية عشر شهراً، تحولت موريتانيا من “بلد شريك” لحلف الناتو، إلى “الشريك الوحيد” للحلف في منطقة الساحل الأفريقي. ففي منتصف يناير من العام الماضي 2021، زار الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، مقر الحلف في العاصمة البلجيكية بروكسل، وأجرى مباحثات مع الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، تركزت حول قضايا الأمن والدفاع في منطقة الساحل.

حينذاك، أعلن الحلف أن ولد الغزواني هو أول رئيس موريتاني يزور مقره، منذ استقلال موريتانيا عام 1960، مُشيراً إلى أن موريتانيا “بلد شريك” للحلف منذ عام 1995؛ في خطوة بدا أنها تمهد لمرحلة جديدة من التعاون والشراكة بين موريتانيا والناتو.

دوافع جيوسياسية

خلال قمة الحلف في مدريد، والتي دُعيت إليها دولتان فقط من خارج أعضاء الحلف، هما الأردن وموريتانيا، في 29 و30 يونيو الماضي، وصف الأمين العام المساعد المكلف بالشئون السياسية والسياسة الأمنية في الناتو، خافيير كولومينا، موريتانيا بـ”الشريك الوحيد” للحلف في منطقة الساحل الأفريقي.

مثل هذا التغير في رؤية حلف الناتو إلى موريتانيا، يعود إلى عدد من الدوافع الجيوسياسية، التي يتمثل أهمها فيما يلي:

1- تكريس الاستقرار السياسي والأمني: يوضح كولومينا، في مقابلة مع وكالة الأنباء الموريتانية، نُشرت في 2 يوليو الماضي، أن نواكشوط لها دور كبير وضروري في منطقة الساحل، لسببين: أولهما، أنها الشريك الوحيد للحلف في الساحل الأفريقي، وهي “الوحيدة التي يمكنها النفاذ إلى بعض أدواتنا بطريقة منهجية لأنها شريك”. وثانيهما، أن “موريتانيا الدولة الوحيدة في منطقة الساحل التي تسيطر على أراضيها وحدودها، وهي دولة تتمتع باستقرار سياسي وأمني”.

2- أهمية موريتانيا في منطقة الساحل: يبدو أن العلاقة بين موريتانيا وحلف الناتو وصلت إلى درجة وصفها بـ”الشريك الوحيد” في الساحل الأفريقي؛ بل وترقى -في نظر الحلف- إلى تصنيفها كـ”حليف استراتيجي”، نظراً لما تلعبه من دور محوري في منطقة الساحل، إضافة إلى دورها القيادي في مجموعة الدول الخمس في الساحل “غربي القارة” (موريتانيا، بوركينافاسو، تشاد، مالي، النيجر)، ونجاح مقاربتها ضد انتشار الجماعات المسلحة، وسيطرتها على كامل أراضيها، في ظل سياق أمني معقد تمر به المنطقة.

3- فاعلية نواكشوط بحكم موقعها الجغرافي: إضافة إلى كونها العضو الفاعل في دول الساحل الخمس، حيث تحتضن مقر المجموعة التي تحارب الإرهاب في المنطقة؛ فإن موريتانيا تُمثل همزة الوصل بين أفريقيا وأوروبا. وبحكم التداخل بين جزر الكناري وموريتانيا، باعتبارها الجار الأفريقي الأقرب إلى الحدود الإسبانية، بعد المغرب والجزائر؛ حاولت إسبانيا اللعب بورقة تقريب موريتانيا لدول حلف الناتو، وتعزيز مكانة الأمن الإسباني، ولكن وفق المظلة الأوروبية أو مظلة الحلف. وبحكم موقعها الجغرافي، يتطلع الناتو إلى أن تلعب موريتانيا دوراً مهماً، حيث تشترك في حدود شاسعة مع مالي، التي بدأت مؤخراً التقارب مع روسيا، المنافس الأول للناتو؛ وهو ما يبرر زيادة التقارب بين موريتانيا والحلف الساعي إلى التصدي للتمدد الروسي، الذي بدأ في المنطقة، على حساب فرنسا الحليف التقليدي هناك.

4- دعم الناتو لبناء قدرات موريتانيا الدفاعية: في قمته بمدريد، أعلن الناتو عزمه تقديم حزمة مساعدات إلى موريتانيا، من دون الكشف عن حجمها أو نوعيتها، في حين أفاد الأمين العام للحلف بأن هذه المساعدات ترمي إلى دعم جهود موريتانيا في التعامل مع أمن الحدود والهجرة غير الشرعية والإرهاب. وفي مؤتمر صحفي عقب القمة، أوضح ستولتنبرغ أن حزمة المساعدات “لدعم بناء القدرات الدفاعية لموريتانيا”. ورغم التطور الحاصل في العلاقات بين موريتانيا وحلف الناتو، فإن هذه العلاقات تعود إلى أكثر من ربع قرن مضى؛ حيث انضمت موريتانيا إلى مبادرة “الحوار المتوسطي” عام 1994، التي شكلت إطاراً للتعاون العملي من أجل تعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الساحل، بين الحلف ودول متوسطية، إضافة إلى موريتانيا، ثم بدأ مستوى التعاون يتطور منذ عام 2010 إلى مجالات محاربة الإرهاب والتصدي للهجرة غير الشرعية، وذلك عبر تقديم التمويلات لزيادة قدرات موريتانيا العسكرية، وتدريب الجيش وتطويره.

صراعات النفوذ

من الواضح أن المساعدات التي أعلن الناتو، في قمته الأخيرة، عن تقديمها لموريتانيا، تدخل في إطار خطة الحلف إلى نهاية العقد الحالي (2030)، المعروفة بـ”المفهوم الاستراتيجي الجديد”، الذي يؤكد على أهمية منطقة الساحل الأفريقي من حيث كونها إحدى مناطق الصراع المستقبلي على النفوذ بين القوى الدولية الكبرى.

ولعل ذلك ما يبدو بوضوح عبر أكثر من جانب، أهمها ما يلي:

1- التنافس الروسي-الغربي في الساحل: يُلقي الصراع المحتدم بين روسيا والغرب، الذي فجرته الحرب الروسية-الأوكرانية، بظلاله على منطقة الساحل الأفريقي؛ خصوصاً أن التمدد الروسي قد وصل إلى مالي، التي اختار قادتها العسكريون التقارب مع روسيا، مُعرضين عن اتفاقيات عسكرية جمعت لعقود مالي مع الحليف التقليدي فرنسا. واللافت أن الوجود الروسي في مالي، فضلاً عن المساعدات العسكرية، قد أثارت مخاوف الناتو والدول الأوروبية، مما جعل الحلف يُعزز ما أسماه “الجناح الجنوبي”؛ خاصة أن روسيا تحاول كسب المزيد من النفوذ من خلال مجموعة “فاغنر”؛ حيث دُعيت المجموعة من قِبل حكومة مالي لتوفير الأمن ضد الجماعات الإسلامية المتشددة. ولعل ذلك يُمثل أحد الدوافع الرئيسية لدعوة موريتانيا لحضور قمة الناتو، بما يعني تأسيس الحلف مفهوماً استراتيجياً جديداً تكون موريتانيا من خلاله شريكاً في الحد من النفوذ الروسي في منطقة الساحل الأفريقي رغم أنه لم يتم الإعلان عنه بعد.

2- تزايد النفوذ الصيني أفريقياً: يشكل النفوذ الصيني المتزايد، لا سيما في المجال الاقتصادي، مصدراً لإزعاج دول الناتو، وهو ما يعكس توجه الحلف لتركيز الاهتمام على منطقة الساحل، حيث أوضح الأمين العام للحلف، بعد انتهاء القمة، أن الدول الأعضاء تطرقت إلى مسألة سعى روسيا والصين إلى تحقيق نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري في “جنوب” نطاق أراضي دول الناتو. وكان أحد البنود التي تمت مناقشتها خلال القمة، ذلك الذي يتعلق بالنفوذ العسكري الصيني المتزايد داخل المحيط الهادي وخارجه، بعد أن حذر الجنرال الأمريكي ستيفن جيه تاونسند، قائد القيادة الأمريكية في أفريقيا، دول الناتو من نية الصين بناء قاعدة عسكرية بحرية في أفريقيا على ساحل المحيط الأطلنطي، قائلاً: “إن لدى بكين أكبر قدر من الجاذبية نحو إقامة قاعدة في غينيا الاستوائية الغنية بالنفط”، وهو احتمال يجعل الصين في حال تحققه تقف على ناصيتي غرب أفريقيا وشرقها عبر القاعدة العسكرية لها في جيبوتي.

3- وجود الحركات المتشددة في المنطقة: تأتي إسبانيا في مقدمة دول الناتو التي طالبت الحلف بضرورة مواجهة الفوضى ووجود الحركات الإسلامية التي تنتهج العنف في منطقة الساحل. وينطلق المبرر الإسباني من أن “الجماعات الإرهابية يمكن أن تستغل حالة عدم الاستقرار في المنطقة، خاصة في مالي بعد انسحاب القوات الفرنسية”؛ الأمر الذي يؤثر على الحدود الأوروبية المتمثلة في إسبانيا، البوابة الأوروبية الأولى لحلف الناتو، في اتجاه الجنوب الأفريقي.

مصالح اقتصادية

في هذا السياق، يبدو أن العلاقات القوية بين موريتانيا وحلف الناتو، والتطور المتسارع لها خلال العقد الأخير، تطرح التساؤلات حول ما إذا كانت موريتانيا يمكن أن تتحول إلى بوابة للحلف إلى منطقة الساحل الأفريقي، من خلال دعم الناتو لقدراتها العسكرية، في محاولة من الحلف للحد من التمدد الروسي والصيني في منطقة الساحل الأفريقي.

والملاحظ أن هذا الدعم المتزايد من الناتو يأتي في وقت تقترب فيه موريتانيا من أن تكون جاهزة لأداء دور فعال في تخفيف وطأة أزمة الغاز الحالية في أوروبا؛ بعد الإعلان عن انتهاء التحضيرات لتشغيل مشروع “تورتو أحميم” للغاز، الذي يمتد على جانبي موريتانيا والسنغال، والذي من المقرر أن يبدأ إنتاجه بحلول العام القادم 2023.

وبحسب تصريحات وزير النفط الموريتاني عبد السلام ولد صالح، أمام منتدى الطاقة الأفريقي في بروكسل، الذي انعقد خلال الفترة 21 – 23 يونيو الماضي، فإن ابتعاد أوروبا عن الغاز الروسي يوفر سوقاً جاهزة ومربحة لمشروع ضخم يجري تطويره في غربي أفريقيا، سيكون “قادراً على إنتاج 2.5 مليون طن سنوياً، وهو ما سيضع موريتانيا والسنغال في قائمة الدول المنتجة للغاز الطبيعي”.