نفذت إدارة الرئيس جو بايدن توجهات الإدارات الأمريكية السابقة (الجمهورية والديمقراطية) بتقليص الالتزام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط، حيث لم تعد الأولوية القصوى لواشنطن، ولاسيما بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، وتم تخفيض عدد القوات الأمريكية في عدد من دول المنطقة، وتحول دور القوات الأمريكية في العراق من الانخراط الميداني إلى تقديم المشورة والتدريبات للقوات العراقية.
وفي الوقت الذي تتراجع أهمية المنطقة بالنسبة للإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عِقد، تحول الشرق الأوسط من كونه منطقة ثانوية للصين إلى منطقة تحتل مكانة متقدمة لأهميتها الحيوية للاقتصاد الصيني، والقوة الصينية المتنامية عالمياً، وكذلك لحسابات الأمن القومي الصيني. وفي رؤية اتجاهات عديدة، فقد أصبح الشرق الأوسط أهم منطقة في العالم لبكين خارج منطقة آسيا والمحيط الهادئ – الهندي، بسبب موارد الطاقة به وموقعه الجغرافي الاستراتيجي.
وتشير زيارات كبار المسئولين الصينيين إلى العديد من دول المنطقة مؤخراً إلى أن هناك توجهاً لدى القيادة الصينية لتوسيع نطاق النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، ليس فقط اقتصادياً ولكن سياسياً أيضاً، وهو الأمر الذي يثير التساؤل حول ما إذا كانت بكين لديها الإرادة السياسية لملء الفراغ الأمريكي في منطقة كانت الولايات المتحدة قد تحولت إلى رقم مهم فيها لفترة طويلة.
محاور رئيسية
على الرغم من عدم إعلان بكين عن استراتيجية صريحة للتعامل مع ملفات المنطقة، إلا أنه يمكن القول إن السياسة الصينية تجاه تلك الملفات تستند على مجموعة من المحاور الرئيسية، من أهمها ما يلي:
١- تبني استراتيجية “التنين الحذِر”: تتجنب الصين الانحياز بشكل كامل لأطراف الأزمات في منطقة الشرق الأوسط. ففي الوقت الذي تدعم القضية الفلسطينية فإنها تقيم علاقات تكنولوجية واقتصادية مع إسرائيل. ولم يحل الدعم الصيني للنظام السوري أو إيران دون تحقيق هذا الهدف خلال المرحلة الماضية. وبذلك نجحت الصين في الحفاظ على علاقات جيدة مع كل دول المنطقة تقريباً، وخاصة بين الدول التي تتصاعد بينها حدة التوتر.
٢- منح الأولوية للعلاقات الاقتصادية: تعد المصالح الاقتصادية الدافع الأساسي للصين للاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط، ولاسيما في ظل اعتمادها بصورة كبيرة على موارد الطاقة من المنطقة، فبين عامى ١٩٩٠ و٢٠٠٩ زادت واردات بكين من نفط الشرق الأوسط بعشرة أضعاف. وفي الفترة بين عامى ٢٠١٩ و٢٠٢٠ قدمت دول الخليج العربي ما يقرب من ٤٠٪ من واردات الصين من النفط، وتنظر بكين إلى موارد الطاقة في المنطقة على أنها ضرورية لنموها الاقتصادي، وبالتالي تأثيرها العالمي.
وبفضل مبادرة الحزام والطريق، التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينج رسمياً في سبتمبر ٢٠١٣، أصبحت بكين الآن أكبر مستثمر في المنطقة، وأكبر شريك تجاري لإحدى عشر دولة فيها. وتسعى بكين إلى ربط المبادرة ببرامج الإصلاح الاقتصادي والتنمية الوطنية التي تتبناها العديد من دول المنطقة. وتغتنم الأولى فرص الاستثمار بالمنطقة وتبرم عقوداً لمشاريع البنية التحتية، مع إتاحة أسواق جديدة للمنتجات الصينية في الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، قامت الصين بتوقيع اتفاقية استراتيجية شاملة لمدة ٢٥ عاماً مع إيران، في 27 مارس 2021، حول التعاون الاقتصادي والأمني، والتي تضمنت وعوداً باستثمارات صينية بقيمة ٤٠٠ مليار دولار مقابل إمدادات نفطية. وينظر لتلك الاتفاقية داخل واشنطن على أنها محاولة صينية لتقويض العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران التي تهدف إلى تغيير سياستها الخارجية العدوانية ووقف تطوير برنامجها النووي.
٣- عدم التدخل في شئون المنطقة: حرصت الصين على أن لا تتدخل في الشئون السياسية الداخلية لدول الشرق الأوسط، أو أن تتخذ مواقف واضحة بشأن التطورات الإقليمية المثيرة للخلافات، حيث يشكل مبدأ “عدم التدخل” أحد المبادئ الرئيسية للسياسة الخارجية الصينية، بما يعني أنها تبنت ما يمكن تسميته بسياسة “الأحلاف المفتوحة” في إدارة علاقاتها مع دول المنطقة.
٤- تحييد الملفات الداخلية الصينية: تهدف بكين أيضاً إلى تجنب التعرض لأى انتقادات من جانب دول المنطقة للسياسة التي تتبناها على المستوى الداخلي، ولاسيما تجاه مسلمي الإيغور، والحصول على دعم تلك الدول في المحافل الدولية، وخاصة في ظل مسعى بكين لتوسيع نطاق نفوذها الجغرافي والاستراتيجي إلى أبعد من جوارها المباشر وتطوير علاقات مع قوى إقليمية عديدة في الشرق الأوسط.
إرادة غائبة
رغم تنامي دورها ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن ذلك لا يعني أن الصين لديها رغبة في ملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الأمريكي من المنطقة، مع توجه الولايات المتحدة لتقليل التزاماتها بها. وثمة أسباب رئيسية يمكن من خلالها تفسير غياب الإرادة السياسية لبكين لملء الفراغ الأمريكي في المنطقة، يتمثل أبرزها في:
١- الاستفادة من الدرس الأمريكي: ترى النخبة السياسية الصينية أن التدخلات العسكرية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما حربى أفغانستان (٢٠٠١) والعراق (٢٠٠٣) قد استنزفت القوة الأمريكية (الاقتصادية والعسكرية، والأخلاقية…) ووضعتها على طريق الانحدار النسبي. وهناك مخاوف من أن تبني بكين التوجه نفسه في المنطقة من شأنه أن يُقوِّض الإنجازات الاقتصادية والدبلوماسية التي حققتها خلال العقود الماضية.
٢- تهديد صورة “الدولة الصديقة للجميع”: هناك قلق صيني من أن يؤدي انخراطها الأمني على نطاق أكبر في المنطقة إلى فقدان أو تأثر علاقاتها مع أطراف الصراعات في الشرق الأوسط، حيث تفضل بكين عدم المخاطرة بهذا الوضع، ومعاداة دولة أو أكثر بالمنطقة في ظل مصالحها الواسعة بها.
٣- عدم تحدي النظام الأمني بالمنطقة: لم تحاول الصين تحدي النظام الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة، لاسيما أنها تستفيد منه، حيث وفَّر الالتزام الأمريكي بأمن واستقرار المنطقة لها المظلة المطلوبة لرفع مستوى علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع دول المنطقة دون تحمل تكلفة الحماية المادية لمصالحها. وبالتالي فإن الانسحاب الأمريكي من المنطقة قد يفرض مزيداً من الضغوط على الصين التي سيتعين عليها تحمل تكلفة المساهمة في الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة لتأمين مصالحها.
٤- منافسة واشنطن في أقاليم أخرى: مع إعادة بلورة الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ إعلان إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما عن التوجه تجاه آسيا، سياساتها الخارجية تجاه الصين ومنطقة آسيا- الباسفيك، والحرب الاقتصادية الأمريكية ضد بكين، بدأت الأخيرة تركز على إعادة تفعيل نشاطها الدبلوماسي والعسكري من أجل إخراج واشنطن من آسيا، ومواجهة العسكرة الأمريكية في المياه القريبة من الصين ونفوذها الآسيوي الحيوي. خلاصة القول، لا يشكل تنامي الدور الصيني في المنطقة تهديداً للمصالح الأمريكية، لسببين: يتمثل أولهما، في أن هذا الدور سيخفف من الالتزامات الأمريكية لتحقيق الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط، ولاسيما في ظل توجه أمريكي لتقاسم أعباء تحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة مع باقي القوى الكبرى والإقليمية. وينصرف ثانيهما، إلىأن الدور الصيني المتنامي في المنطقة لا يهدف إلى ملء الفراغ الأمريكي ولا تحدي قوة ونفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بقدر ما هو مدفوع بالمخاوف الاقتصادية والسياسة الداخلية الصينية والاعتماد الصيني على موارد الطاقة من المنطقة، والحد من الانتقادات التي يمكن أن توجه لسياستها تجاه مسلمي الإيغور.