ربما تتجه طهران نحو ممارسة المزيد من الضغوط لإخراج القوات الأمريكية من المنطقة، على نحو بدا جلياً في التصريحات التي أدلى بها المرشد الأعلى علي خامنئي، في 4 أكتوبر الجاري، وانتقد فيها بعض دول المنطقة التي “تراهن” على الوجود العسكري الأجنبي على أراضيها.ويمكن القول إن هناك محفزات عديدة ربما تدفع إيران إلى ذلك، يتمثل أبرزها في توسيع هامش المناورة للضغط على واشنطن مع اقتراب موعد استئناف محادثات فيينا ورغبة مجموعة (4+1) بالإضافة إلى الإدارة الأمريكية في تضمين عددمن الملفات الأخرى مثل البرنامج الصاروخى والنفوذ الإيراني بالمنطقة في إطار هذه التفاهمات. ويتوازى ذلك مع مواجهة إيران لعدد من الصعوبات في العراق، الأمر الذي يتمثل في ابتعاد بعض حلفائها مثل مقتدى الصدر ورغبة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمى في عودة بغداد إلى محيطها العربي، بما يحد من تصاعد النفوذ الإيراني هناك، فضلاً عن المواجهات الحادة بين طهران وتل أبيب في دمشق، لكن الجديد في الأمر أن إيران باتتتحظى بدعم روسي كبير هناك، بما يحفزها لطرد واشنطن لتثبيت دعائم الميليشيات التابعة لها هناك.
تسبب التغير المفاجئ للنظام في أفغانستان في إعادة إيران لترتيب أوراقها مرة أخرى، ودراسة خياراتها حول كيفية التعامل مع التطورات الجديدة في دول الجوار، وفي هذا السياق،انقسم الرأى العام الإيراني ما بين من يحاولون تصوير الانسحاب الأمريكي على أنه دليل على تراجع الهيمنة الأمريكية، وبين بعض المسئولين الذين يتبنون سياسة حذرة،انطلاقًا من التداعيات التي قد تترتب على مصالح إيران في أجزاء أخرى من المنطقة، ولاسيما فيما يتعلق بدمشق وبغداد، وأن ما حدث في جارتها الشرقية حتمًا سيكون له بعض التأثير على نفوذها في مناطق أخرى من الشرق الأوسط. وعلى هذا النحو، أدركت إيران أن الضغط المستمر على الولايات المتحدة الأمريكية سيجبرها في النهاية على المغادرة وسحب قواتها، وهو الأمر الذي من الممكن أن يتكرر في العراق وسوريا.
اعتبارات عديدة
إن هناك بعض العوامل التى يمكن أن تعزز هذا الطرح، يتمثل أبرزها في:
1- تأثير العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران: أدت الجزاءات الاقتصادية المفروضة على إيران من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والتى تم تكثيفها بعد الخروج الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو لعام 2018، إلى التأثير بشكل سلبي على المؤشرات الاقتصادية في إيران؛ حيث استعرضت غرفة تجارة طهران، في آخر اجتماع لها الذي تم عقده في 20 سبتمبر الفائت، أوضاع بعض المؤشرات الكلية الهامة مثل التضخم والذي اتضح أنه ارتفع بعد يوليو الفائت بمعدل 43٪. أما فيما يتعلق بالتجارة الخارجية فيختلف الأداء باختلاف القطاعات؛ حيث زادت صادرات إيران غير النفطية إلى تركيا بشكل كبير وتم الحفاظ على الميزان التجاري الإيجابي مع الصين، بينما انخفضت صادرات إيران غير النفطية إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 7.8%، وأظهرت الواردات من هذا الاتحاد انخفاضًا بنسبة 18.6%، لكن زادت في الأشهر السبعة الأولى من عام 2021 بنحو 8%.
2- مخاوف من تحالفات “طالبان” الخارجية:كشفت بعض التقديرات عن أن ترسيخ حكم طالبان في أفغانستان سيجعل من هذه الأخيرة سوقا لباكستان، بما يؤدى لفقدان إيران لمكانتها في السوق الأفغاني، كما سيضمن نقطة اتصال بين باكستان وآسيا الوسطى، وبالتالي،تهميش ميناء تشابهار الإيراني، فضلاً عن إمكانية تحول أفغانستان لموقع هام بالنسبة لمنافسي إيران الإقليميين أي المملكة العربية السعودية وباكستان وتركيا وحلفاءهم، الأمر الذى من الممكن أن يخلق مشكلات جديدة على حدود إيران الشرقية، وبالتالى، يمكن أن يكون ذلك بمثابة دافع قوى بالنسبة لإيران لتعزيز دورها بمناطق نفوذها التقليدية وممارسة المزيد من الضغوط لإخراج القوات الأمريكية باعتبار أن الوجود العسكري الأمريكي يعرقل أى خطط إيرانية في هذا الصدد.
3- التماهي مع تحركات القوى الدولية:يمكن لإيران أن تستفيد مما حدث في كابول لتوطيد علاقتها بالقوى الشرقية مثل روسيا والصين التى رحبت بصعود طالبان في أفغانستان؛ حيث يمكن لطهران أن تستغل هذه الفرصة لتعزيز اتفاق التعاون الاستراتيجي الشامل مع الصين الذي تصل مدة تنفيذه إلى 25 عامًا والذي وقع عليه الجانبان مؤخرًا، وهو ما ظهرت بوادره في الاتصال الهاتفى الأول للرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسي مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، والذى صرح على إثره، قائلاً: “إيران مستعدة للتعاون مع الصين في إرساء الأمن والاستقرار والسلام في أفغانستان“، يتوازى ذلك، مع تشديد صحيفة “جوان” الإيرانية – وهي صحيفة يومية قريبة من الحرس الثوري الإيراني – ، على أن “العلاقة الحالية مع الصين وروسيا ستكون أكثر أهمية من المفاوضات النووية. وربما يكون ذلك أحد أهداف الزيارة التي يقوم بها حسين عبد اللهيان وزير الخارجية الإيراني إلى روسيا في 5 أكتوبر الجاري.
4- مخاوف من تصاعد المأزق العراقي: بدأت إيران في استغلال ما حدث في أفغانستان للضغط على واشنطن في بغداد، وهو الأمر الذي ظهرت بوادره في إعادة طرح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لموضوع اغتيال قائد فيلق القدس السابق قاسم سليمانى وإعادة فتح التحقيقات لتعقيد مهمة وجود القوات الأمريكية في المنطقة. ومن ناحية أخرى، يبدو أن إيران تشعر وكأن نفوذها بدأ يتراجع ولاسيما بعد أن قلصت الجماعات المسلحة المدعومة من طهران أنشطتها الموجهة لتهديد المصالح الأمريكية في بغداد، على خلفية انصراف تركيزها نحو القضايا المحلية وخاصًة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في 10 أكتوبر القادم.
ولكن المرجح أن هذه الجماعات تنتظر لترى إلى أي مدى سيتم تطبيق مخرجات الحوار الأمريكي العراقي، بشأن إنهاء المهمة القتالية الأمريكية في العراق، فإذا كانت النتيجة النهائية لا تلبي توقعات إيران وحلفائها العراقيين، يمكن توقع جولة جديدة-وربما أكثر حدة – من الهجمات المسلحة ضد المصالح الأمريكية في بغداد.
ومن هنا، قد تسعى إيران وحلفائها لاستخدام تجربة أفغانستان كنموذج واقعي للضغط على واشنطن في العراق، ولاسيما أن الإدارة الأمريكية بقيادة جوبايدن عازمة على تقليص انخراطها في الشرق الأوسط. ويتوازى ذلك، مع محاولة إيران استعادة نفوذها في بغداد، وخاصًة بعد أن ابتعد عنها أحد أقرب حلفائها مقتدى الصدر؛ فرغم نظرة الكثيرين إليه كوكيل إيرانى، لكن الواضح أن هذه العلاقة توترت، وأبدى الصدر معارضته مؤخرًا للتدخل الأجنبي في العراق بما يشمل إيران.
5- احتواء “الانفلات” السوري المحتمل: يتعلق أحد أبرز الدوافع الإيرانية وراء ضرورة فرض المزيد من الضغوط على الولايات المتحدة الأمريكية لإخراجها من المنطقة بمحاولة إحكام السيطرة على المناطق التابعة لها في الشرق الأوسط؛ حيث تشير موافقة الرئيس السورى بشار الأسد على المشاركة في نقل الغاز المصريإلى لبنان إلى رغبة النظام السورى في كسب المزيد من الشرعية، وتوسيع نطاق الانفتاح على دول المنطقة. وربما لا تستبعد طهران في هذا الصدد اتجاه النظام إلى محاولة فتح قنوات تواصل مع الدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، في ضوء محاولاته تعزيز شرعيته مجدداً والعودة للاندماج في المنظومة الدولية بعد انتهاء مرحلة الصراع المسلح.
وكلاء طهران
ختامًا: أدى الفشل الأمريكي في مواجهة طالبان إلى اعتقاد المسئولين الإيرانيين بأنهم يستطيعون هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية في أماكن أخرى من المنطقة باستخدام الجماعات المسلحة الخاضعة لهم، وبعبارة أخرى، بينما أعلنت إدارة بايدن أنها تريد فرض قيود على سياسات إيران الإقليمية وسط المحادثات النووية المتوقع استئنافها قريبًا، فإن قرار البيت الأبيض بشأن أفغانستان أقنع طهران بأن وكلائها في المنطقة هم أهم أدوات نفوذها التى لا يجب أن تخسرها تحت أية ظرف.