شهدت العاصمة السودانية الخرطوم وبعض الولايات الأخرى، مثل “القضارف” شرقاً و”دنقلة” و”عطبرة” شمالاً، خروج المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في 30 يناير 2022، التي دعت إليها لجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين للتعبير عن رفضهم الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية، ومطالبتهم بإجراء تحقيقات فورية للكشف عن المتورطين في مقتل المتظاهرين السلميين الذين شاركوا في تظاهرات 17 يناير الفائت، وتم تنظيم المظاهرات تحت شعار “مليونية 30 يناير” والمطالبة بحكم مدني ديمقراطي ومحاسبة المسؤولين عن مقتل المتظاهرين، رافعين شعارات “العين بالعين” و”العسكر إلى الثكنات”، وتحركت بعض هذه المظاهرات باتجاه القصر الرئاسي، وذلك رغم التحذيرات التي أطلقتها لجنة تنسيق شؤون أمن ولاية العاصمة الخرطوم.
سياق مضطرب
اندلعت المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في 30 يناير الفائت، في سياق ما تشهده السودان من تطورات سياسية وأمنية مضطربة، ومن أبرزها ما يلي:
1- الانقسام المتزايد في المواقف بين المكونين العسكري والمدني تجاه كيفية تسوية الأزمة السياسية الحالية بسبب اختلاف رؤى كل طرف بشأن طريقة حلها، واتضح ذلك في اتهام الفريق “حميدتي” الأحزابَ السياسية بغياب التوافق بينها، وتأكيده أن أي انتخابات لا يمكن أن تتم بدون الأحزاب السياسية.
2- تزايد الضغوط الأممية والأمريكية على السلطات الانتقالية السودانية بسبب استمرار الأزمة السياسية دون حل، وانتقاد البعثة الأممية في السودان “يونيتامس” إصرارَ الجيش على استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين، وطالبتهم بالسماح لهم بالتعبير عن مواقفهم بشكل سلمي، فضلاً عن انتقاد واشنطن لاستمرار العنف على هذا النحو الذي تزداد معه أعداد القتلى والمصابين.
3- طرح عدد من المبادرات الإقليمية والدولية بغرض التوصل إلى تسوية شاملة للأزمة السياسية السودانية، وعلى رأسها مبادرة الهيئة الحكومية للتنمية في إفريقيا “الإيجاد”، والمبادرة الأممية، ومحاولة جنوب السودان لعب دور الوساطة بين الأطراف السودانية. وتهدف كافة هذه المبادرات لتقريب وجهات النظر بين المكونين المدني والعسكري وتسليم السلطة لحكومة مدنية.
أسباب التظاهرات
يمكن تفسير استمرار المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في السودان وتجددها في إطار جملة من العوامل التي دفعت السودانيين إلى التظاهر، ومن أبرزها ما يلي:
1- المطالبة بوقف العنف ضد المتظاهرين: استخدمت السلطات السودانية الانتقالية مقاربةَ الأمن باعتباره السبيل الوحيد لقمع المظاهرات السلمية التي لا تزال تشهدها البلاد من أكتوبر الماضي عندما قام الجيش بالإطاحة بالحكومة الانتقالية في 25 أكتوبر الماضي، بدلاً من إجراء حوار وطني حقيقي للخروج من هذه الأزمة. وقد أسفر استخدام السلطات الأمنية للعنف والقوة المفرطة (الرصاص – الغاز المسيل للدموع) ضد المتظاهرين السلميين إلى مقتل متظاهر وإصابة 7 مواطنين و62 من قوات الأمن بعد أن اشتبكوا مع المتظاهرين، ليرتفع بذلك عدد قتلى المتظاهرين منذ أكتوبر الماضي وحتى 30 يناير إلى 79 شخصاً (وفقاً للجنة أطباء السودان)، وإصابة عشرات المتظاهرين، وهو ما دفع لجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير إلى الحشد والتعبئة لمزيد من التظاهرات للتأكيد على حق المواطنين في التعبير والتظاهر السلمي، الأمر الذي دفع واشنطن إلى تحذير الجيش السوداني من عواقب الاستمرار في العنف ضد المتظاهرين واحتجاز النشطاء التابعين للقوى السياسية والمدنية.
2- رفع القوى السياسية اللاءات الثلاث: خرجت التظاهرات أيضاً لرفع شعارات القوى السياسية والمدنية الرافضة للانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية، والمتمثلة في رفض التفاوض والحوار والاعتراف بشرعية سلطة الانقلاب العسكري التي أصبحت تدير المرحلة الانتقالية حالياً في البلاد، كما تعبر القوى السياسية عن رفضها لكافة الإجراءات التي اتخذها الجيش طوال الأربعة أشهر الأخيرة، ومن بينها رفض دعوات رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن “عبدالفتاح البرهان” لإجراء انتخابات في يوليو 2023، مطالبين بتهيئة الأوضاع الداخلية في البلاد على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية بشكل يوفر المناخ السياسي المناسب لمشاركة الأحزاب السياسية في أية استحقاقات انتخابية.
3- تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية: إذ دفعت الأوضاع المضطربة داخل المجتمع السوداني المواطنينَ للاستجابة لدعوات التظاهر والاحتجاج للمطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تزداد سوءاً في ظل استمرار عدم الاستقرار السياسي، حيث تم رفع الدعم الحكومي عن السلع والخدمات الأساسية وآخرها الكهرباء، وذلك بعد عام من إلغاء الدعم عن الوقود والدقيق تنفيذاً لإجراءات الإصلاح الاقتصادي التي أوصى بها صندوق النقد الدولي، وعدم قدرة الجيش وحكومته المصغرة التي تم تشكيلها في 20 يناير الفائت، على اتخاذ الإجراءات والحلول اللازمة لحل هذه المشكلات المتفاقمة.
4- رفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للبلاد: انتقد تجمع المهنيين السودانيين الموقف الحالي للأمم المتحدة تجاه الأزمة السياسية الراهنة في السودان، متهماً إياها بالإنحياز إلى صف المكون العسكري وطرح مبادرة عبر مبعوثها “فولكر بيريتس” (رئيس بعثة الأمم المتحدة السياسية “يونيتامس”) تعبر عن تدخل أممي في الشؤون الداخلية للبلاد، وإغفال الجزئية الخاصة بتسليم السلطة للمدنيين عبر دعوة المبادرة الشعب السوداني للتعاطي مع الأمر الواقع المترتب على الانقلاب العسكري على السلطة المدنية في أكتوبر الماضي.
سيناريوهان محتملان
وفي سياق المعطيات الراهنة المرتبطة بالتطورات السياسية والأمنية الراهنة في السودان، فإنه يمكن الحديث عن بعض السيناريوهات المحتملة في هذا الخصوص، وذلك كما يلي:
السيناريو الأول: الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، ويرجح هذا السيناريو أن تلجأ السلطات السودانية إلى الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية كحل عاجل لإخراج البلاد من أزمتها السياسية الحالية، ويستند هذا السيناريو إلى تصريحات الفريق أول ركن “محمد حمدان دقلو” نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الأخيرة التي أشار فيها إلى أن الحل الحاسم للأزمة الحالية في البلاد لا يتم إلا عبر صناديق الانتخابات، كما أن الضعوط الأمريكية المتزايدة قد تدفع قادة الجيش لوقفع العنف ضد المتظاهرين والاستجابة للجهود الدولية بما يُسهم في تحقيق حالة من الاستقرار السياسي اللازم لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة تؤدي لتسليم السلطة لحكومة مدنية جديدة.
السيناريو الثاني: اتجاه الأوضاع نحو مزيدٍ من التعقد، ويرجح هذا السيناريو اتجاه الأزمة السياسية نحو مزيد من التصعيد خلال الفترة القادمة، واستمرار هذا التصعيد السياسي والأمني بما يدفع في اتجاه تأجيل إجراء انتخابات عاجلة، وانتظار إجرائها في يوليو 2023 كما وعد بها الجيش السوداني من قبل، وذلك استناداً إلى غياب التوافق الوطني بين الأحزاب السياسية الفاعلة في المشهد السياسي الحالي، ورفض قوى الحراك الشعبي التفاوض أو الحوار مع قادة الجيش السوداني، وكذلك عدم الاعتراف بشرعية بقائهم على رأس السلطة الانتقالية الحالية في ظل اتهامهم بالانقلاب العسكري على السلطة منذ 25 أكتوبر الماضي، بالإضافة إلى عدم قدرة الوساطات الإقليمية والدولية تحت رعاية الأمم المتحدة على تقريب وجهات النظر بين المكونين المدني والعسكري حتى الآن، هذا إلى جانب عدم قدرة الأحزاب السياسية الحالية على تبني موقف موحد يمكنهم من تكوين قواعد شعبية يستندون إليها لدخول انتخابات برلمانية تسفر عن حكومة وحدة وطنية جديدة لإدارة شؤون البلاد.
استقرار مشروط
خلاصة القول، تشير التظاهرات والاحتجاجات الشعبية المتواصلة منذ شهر أكتوبر الماضي وحتى الآن، إلى وجود حراك شعبي متنامٍ يُعبّر عن زخم ثوري متصاعد، بالتزامن مع ضغط أممي وأمريكي متزايد قد يدفع في نهاية الأمر إلى دفع المكون العسكري للقبول بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية تتمتع بشرعية شعبية، إلا أن ذلك سيظل رهناً باستعداد الجيش السوداني لتسوية الأزمة الحالية في المدى القريب، لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني اللازمين لإخراج البلاد من أزماتها الحالية، واستعادة ثقة المجتمع الدولي في السودان مرة أخرى. وبناء على ما سبق، فإن المعطيات الراهنة ترجح استبعاد إجراء انتخابات مبكرة والانتظار حتى الموعد المقرر لها في يوليو القادم، في ظل عدم استعداد كافة الأطراف السودانية لإجرائها في المرحلة المقبلة.