ساهمت العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، في دفع الحكومة السويسرية إلى تبنّي جميع العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا، الأمر الذي فسّره كثيرون بأنه تخلٍّ عن سياسة الحياد الصارم التي التزامت بها سويسرا منذ مؤتمر فيينا عام 1815. وقد جاء الموقف السويسري نتيجة عوامل ثلاثة رئيسية، تتمثل في الاستجابة لمطالب الرأي العام والقوى السياسية الرئيسية وخاصة الأحزاب، التي نادت بضرورة تبني الحكومة للعقوبات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي في مواجهة روسيا، إضافة إلى حيازة سويسرا بعض أوراق الضغط ومصادر النفوذ في مواجهة روسيا، فضلاً عن الضغوط الأوروبية والأمريكية عليها. وسيكون للموقف السويسري من الأزمة الأوكرانية، تداعيات مهمة على العلاقات بين القوى السياسية داخل البلاد، واقتصادها القومي، فضلاً عن التأثير على مكانتها كوسيط دولي محايد.
مؤشرات دالة
رداً على عملياتها العسكرية في أوكرانيا، قررت سويسرا الانضمام للعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا، بالرغم من كونها ليست عضواً في التكتل، واتسمت هذه العقوبات بسرعة التطبيق واتساع النطاق، لتتخلى بذلك عن المفهوم التقليدي للحياد الذي لطالما التزمت به، ومن أبرز المؤشرات على ذلك:
1- حظر تصدير بعض السلع لروسيا: حظرت سويسرا تصدير سلع من شأنها تعزيز قدرات روسيا العسكرية، وبعض الخدمات الخاصة بقطاع النفط وتكنولوجيا الطيران. وأعلنت وزارة المالية السويسرية، تمديد حظر الاستيراد والتصدير والاستثمار المتعلق بشبه جزيرة القرم والساري منذ عام 2014، ليشمل مناطق دونيتسك ولوجانسك الأوكرانية والتي لم تعد تحت سيطرة الحكومة الأوكرانية.
2- تجميد أصول بعض الكيانات والشخصيات الروسية: في 28 فبراير الماضي، قامت سويسرا بتجميد أصول تابعة لشركات روسية، وأفراد أُدرجوا على القائمة السوداء للاتحاد الأوروبي، بما في ذلك تجميد أصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه. وفي 16 مارس الجاري، أضافت وزارة الاقتصاد 206 أسماء أخرى إلى قائمة العقوبات الحالية، وتشمل الإضافات الجديدة مسؤولين ورجال أعمال بارزين من روسيا وبيلاروسيا. وبهذه الخطوة أصبحت قائمة العقوبات السويسرية تتفق بالكامل مع قائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي. حيث يخضع الأفراد المدرجون في القائمة السوداء لعقوبات مالية وقيود سفر إلى سويسرا، ويصل بذلك إجمالي عدد الشخصيات والكيانات الروسية الخاضعة للعقوبات السويسرية إلى حوالي 870 شخصاً وأكثر من 60 شركة.
3- تعليق الرحلات الجوية وبعض الأنشطة التجارية: قررت الحكومة السويسرية تعليق اتفاقية عام 2009 بشأن تسهيل منح التأشيرات للمواطنين الروس جزئياً، كما أعلنت إغلاق المجال الجوي للبلاد أمام جميع الرحلات الجوية القادمة من روسيا. وعلّقت شركة الخطوط السويسرية، التي تعد فرعاً للوفتهانزا الألمانية، أيضاً رحلاتها إلى موسكو وسان بطرسبرغ. في الوقت نفسه، أفادت مجموعة المنتجات الفاخرة “ريتشمونت”، المالكة لشركة “كارتييه” للمجوهرات، ووكالة “إيه دبليو بي”، المعنية بالمال والأعمال، بأنها علّقت أنشطتها التجارية في روسيا.
عوامل متعددة
هناك عددٌ من العوامل التي دفعت الحكومة السويسرية إلى اتباع النهج الذي تبناه الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة على روسيا، من بينها:
1- الاستجابة لضغوط الأحزاب السياسية: كان الهجوم العسكري الروسي غير المسبوق على دولة أوروبية ذات سيادة العامل الحاسم في قرار المجلس الاتحادي السويسري تغيير موقفه السابق بشأن العقوبات، خاصة أن البلاد ابتعدت عن فرض عقوبات على روسيا عندما ضمت شبه جزيرة القرم في عام 2014. كان الاستثناء في موقفها هو الالتزام بالعقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي، والتي يتعين عليها تنفيذها بموجب القانون الدولي.
ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، تعرضت الحكومة السويسرية لضغوط قوية من قبل بعض الأحزاب السياسية التي دعت إلى اتخاذ موقف أكثر حزماً. وسلّم الاشتراكيون للحكومة التماساً وقع عليه 20 ألف شخص يريدون أن تفرض سويسرا عقوبات مالية كاملة على موسكو. إضافة إلى تنامي دعوات المشرعين المطالبة بضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي، وتعزيز القدرات العسكرية والتقارب مع حلف الناتو وتقوية التعاون الدفاعي مع الاتحاد الأوروبي. في الوقت نفسه، خرج آلاف المحتجين في مسيرات حاشدة لمطالبة الحكومة السويسرية بالوقوف إلى جانب الغرب بوضوح ضد موسكو.
2- امتلاك سويسرا بعض مصادر النفوذ في مواجهة روسيا: لدى سويسرا عدد من أوراق الضغط، والتي وجد المجتمع الدولي أنه من الضروري استثمارها في مواجهة روسيا، ومن بينها وجود فروع لبعض البنوك الروسية في سويسرا، من بينها بنكا سبيربنك وجازبرومبانك. إضافة إلى أن البلاد هي -إلى حد بعيد- أكبر مستقبل لرأس المال الخاص الروسي. وتظهر بيانات البنك الوطني السويسري أن الروس يمتلكون ما يقرب من 10.4 مليارات فرنك سويسري (11.33 مليار دولار) في سويسرا في عام 2020، مما أثار مخاوف الغرب من استخدام البلاد كمنصة للتحايل على عقوبات الاتحاد الأوروبي.
تستضيف سويسراً أيضاً المقر الرئيسي لشركة “نورد ستريم 2 إيه جي”، المسؤولة عن أعمال مشروع خط أنابيب “نورد ستريم 2” الروسي. وقد وافقت الولايات المتحدة، يوم 23 فبراير الماضي، على وضع المشروع الذي كان من المقرر أن يورد الغاز الروسي إلى ألمانيا ودول أوروبية ضمن لائحة العقوبات، لذلك فإن نفوذ سويسرا له أهمية دولية كبيرة، مما وضع البلاد تحت ضغط كبير لاتخاذ موقف حاسم في هذه الأزمة.
3- الضغوط الأوروبية المتزايدة لتجميد الأصول المالية الروسية: عارضت سويسرا في بداية الأزمة، اتخاذ قرار تجميد الأصول المالية للأفراد والكيانات الروسية، معلنة أنها ستمنع مصارفها من قبول أيّ أموال جديدة من طرف الأسماء المدرجة في قائمة العقوبات، مبررةً هذا الموقف بالرغبة في الحفاظ على فرص قيامها بدور الوسيط المحتمل في مفاوضات السلام التي يمكن أن تُجرى بين الطرفين مستقبلاً، خاصة أنها سبق أن نظمت قمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن في جنيف في يونيو 2021، وعرضت مراراً مساعيها الحميدة على كلا البلدين، كما استضافت قبيل الحرب في أوكرانيا اجتماعاً بين وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا.
ومع ذلك، كان هذا الموقف المبدئي الذي اتخذته سويسرا غير كافٍ بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي أكد أن “الكتلة تتوقع من سويسرا أن “تحذو حذوها في الدفاع عن المبادئ التي تقوم عليها مجتمعاتنا ودولنا”. لذلك، قبلت سويسرا اتّباع النهج الأوروبي، رغبة منها في عدم إحداث مزيدٍ من التدهور في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، والتي شهدت بالفعل حالة من التوتر الشديد خلال العام الماضي، عقب قرار الحكومة السويسرية وضع حدٍّ للمفاوضات بشأن الاتفاق الإطاري الذي سيؤسس للعلاقات مع الاتحاد الأوروبي.
تداعيات محتملة
أدى فرض سويسرا عقوبات غير مسبوقة على موسكو، إلى جعل حيادها التقليدي موضع اختبار حقيقي، وستكون لذلك تداعيات مهمة في المستقبل، منها:
1- تعميق الانقسامات الداخلية: يحظى فرض العقوبات الاقتصادية المتعلقة بغزو أوكرانيا بشعبية كبيرة على الصعيد السياسي، سواء من قبل معظم المشرعين والأحزاب السياسية الرئيسية في سويسرا التي عبرت عن دعمها للعقوبات. ولقيت هذه الخطوة، التي أصرت الحكومة على أنها “متوافقة” مع حيادها، ترحيباً واسعاً على الساحة الدولية، حتى إن الرئيس الأمريكي جو بايدن أشار إليها في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه عندما أشاد بأن “حتى سويسرا” كانت مع أولئك الذين يسعون إلى محاسبة موسكو على عدوانها. من ناحية أخرى، حذر بعض المعارضين السياسيين من أن التحركات الحكومية بشأن أزمة أوكرانيا يمكن أن “تفسد” أحد المبادئ الرئيسية للدولة، والتي تفرض عليها عدم التورط في الصراعات الدولية. وقد أثارت العقوبات السويسرية على روسيا غضب اليمين المتطرف، الذي يطالب بالحياد التام، على الصعيدين العسكري والسياسي. وهدد أكبر حزب، حزب الشعب السويسري اليميني الشعبوي (SVP)، بدفع القضية للاستفتاء كجزء من نظام الديمقراطية المباشرة في البلاد.
2- الإضرار -جزئياً- بالاقتصاد القومي: يمكن أن يتسبب موقف سويسرا من العقوبات الاقتصادية على روسيا، في بعض المشكلات الاقتصادية، وإن كانت محدودة، في ظل التوقعات الحكومية بأن ينخفض معدل النمو الاقتصادي بنسبة 2.8 % هذا العام، مقارنة بالتوقعات السابقة التي بلغت 3%، وذلك بسبب الصراع في أوكرانيا وارتفاع التضخم. في الوقت نفسه، تعتبر سويسرا هي “الوجهة الاستثمارية الأكثر شعبية للأثرياء الروس”، حيث يتم استثمار حوالي ثلث إجمالي الثروة الروسية الموجودة في الخارج هناك. ويتم تداول حوالي 80% من تجارة المواد الخام الروسية، مثل النفط والغاز في سويسرا. وربما يقع الضرر الأكبر في هذه الأزمة على روسيا، خاصة أنه من وجهة النظر السويسرية، روسيا ليست سوى شريك تجاري يأتي في المركز الثالث والعشرين بين أكبر شركاء سويسرا التجاريين.
3- التشكيك في مكانة البلاد كوسيط محايد: يمكن أن يُمثل فرض سويسرا عقوبات اقتصادية على روسيا ابتعاداً عن المفهوم التقليدي للحياد، وهناك مخاوف جدية من أن الموقف السويسري المتشدد من موسكو سوف يضيع أي إمكانية أو فرصة لقيام البلاد بدور الوسيط المحتمل بين طرفي الصراع، الأمر الذي قد يهدد مكانة البلاد وسمعتها كوسيط دولي مرموق في النزاعات المسلحة أو السياسية بين الدول الأخرى. ومع ذلك، فإن الموقف السويسري من الحرب في أوكرانيا ربما يُمثل تحركاً نحو حياد سياسي أكثر فاعلية، وذلك لأنه في حين أن سويسرا محايدة عسكرياً، فإن لها كامل الحق في الدفاع عن مصالحها من خلال تكييف سياستها الخارجية وفقاً للسياق الدولي الراهن والمصالح الاقتصادية والمالية للبلاد، مما يسبغ على الحياد السويسري صفة المرونة.
من جملة ما سبق، يمكن القول إن مستقبل سياسة الحياد التقليدي الذي تبنته سويسرا على مدار عقود طويلة قد ولّى إلى غير رجعة، وسيكون لاستمرار تنامي التهديدات الجيواستراتيجية من قبل القوى الكبرى للبلدان الأوروبية الأصغر، مثلما حدث في أوكرانيا، دافعاً قوياً لسويسرا للتخلي نهائياً عن سياسة الحياد والانضمام لتحالفات دفاعية، منها حلف الناتو.