كشف التقرير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 4 سبتمبر الجاري، عن تغير تكتيكي في الموقف الإيراني بدا جلياً في انخفاض كمية اليورانيوم المخصب التي تمتلكها بنسب مختلفة، بنحو 949 كيلوجرام. ورغم أن ذلك توازى مع استمرار انتقادات الوكالة لعدم تعاون إيران بشكل كافٍ مع مطالبها الخاصة بالإجابة عن تساؤلات حول العثور على جزيئات يورانيوم في بعض المواقع، فإن ذلك يوحي بأن هناك تفاهمات يجري العمل على تطويرها حالياً مع الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل دفع إيران، على الأقل في الوقت الحالي، إلى عدم مراكمة المزيد من المواد النووية التي كانت كفيلة بإنهاء تلك التفاهمات، والعودة من جديد إلى التصعيد على مستويات مختلفة.
مؤشرات عديدة
تتمثل أبرز المؤشرات الدالة على اتجاه إيران والولايات المتحدة الأمريكية نحو توسيع نطاق التفاهمات التي تم التوصل إليها في:
1- ارتفاع مستوى الصادرات النفطية الإيرانية: كشف تقرير لموقع “تانكر تراكرز”، في 31 أغسطس الفائت، عن أن إيران رفعت مستوى صادراتها من النفط الخام والمكثفات إلى 1.85 مليون برميل يومياً في أغسطس الفائت. ويعني ذلك أن إيران وصلت في هذا الشهر إلى أعلى مستوى في الصادرات النفطية منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية عليها بداية من 7 أغسطس من العام نفسه.
2- تراجع عمليات استهداف القوات الأمريكية: تراجعت بشكل ملحوظ عمليات استهداف القوات الأمريكية في المنطقة، خاصة في سوريا والعراق، وهي العمليات التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية توجه فيها اتهامات مستمرة لإيران بالمسئولية عنها عبر منح الضوء الأخضر لحلفائها في المنطقة لمهاجمة القواعد التي تتواجد بها هذه القوات.
ورغم أن التحركات العسكرية التي تقوم بها القوات الأمريكية على الحدود بين العراق وسوريا قد أثارت قلقاً لدى إيران وحلفائها، في ظل الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة التي تعد ممراً مهماً تستخدمه إيران في مواصلة تقديم الدعم للنظام السوري والمليشيات الموالية لها في سوريا والعراق، ورغم التهديدات والدعوات المتكررة التي وجهتها تلك المليشيات في الفترة الأخيرة رداً على ذلك؛ إلا أنه لم تُسجل في الفترة الأخيرة عمليات استهداف ضد تلك القوات.
3- إبرام صفقة تبادل السجناء: أعلنت إيران والولايات المتحدة الأمريكية، في 10 أغسطس الفائت، عن إبرام صفقة لتبادل السجناء، تقضي بإفراج إيران عن خمسة أمريكيين محتجزين لديها في قضايا مختلفة، مقابل حصولها على 6 مليارات دولار من أموالها المجمدة في كوريا الجنوبية، وإطلاق الولايات المتحدة الأمريكية سراح إيرانيين اتهموا بانتهاك العقوبات الأمريكية المفروضة عليها.
وقد أعلنت إيران، في 21 أغسطس الفائت، أن عملية تبادل السجناء سوف تستغرق شهرين، وذلك باعتبار أنها ترتبط بخطوات لوجيستية عديدة، من بينها نقل الأموال من كوريا الجنوبية إلى سويسرا، حيث سيتم تحويلها من العملة الكورية الجنوبية (الوون) إلى اليورو، ثم إيداعها في حساب مصرفي بقطر، تنفق منه إيران على شراء أغذية وأدوية.
4- التلميح إلى طرح “وثيقة سبتمبر” مجدداً: وهي الوثيقة التي تم التوصل إليها في أغسطس 2022، وعرضها مسئول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في شكلها النهائي على إيران والولايات المتحدة الأمريكية، للحصول على موافقتهما عليها، قبل أن تتحول إلى وثيقة رسمية تتضمن عودة الأخيرة إلى الاتفاق النووي مقابل عودة الأولى إلى الالتزام بتعهداتها فيه. إلا أن اندلاع الاحتجاجات في إيران في منتصف سبتمبر 2022 ساهم في تراجع اهتمام الطرفين بها، واتجاههما إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية التي أدت إلى تعثر المفاوضات النووية في النهاية.
وقد كان وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان أول من أثار الجدل مجدداً حول هذه الوثيقة، عندما أشار إلى أنها جاهزة للنقاش مرة أخرى، خلال حواره مع صحيفة “اطلاعات” في 3 سبتمبر الجاري. إلا أن تصريحاته أثارت ردود فعل متباينة داخل إيران وخارجها، حيث اختلفت الأطراف المعنية حول تفسير ما يقصده عبد اللهيان بهذه الوثيقة، وهو ما دفع المتحدث باسم وزارة الخارجية ناصر كنعاني، في اليوم التالي، إلى إزالة الغموض حول هذه التصريحات، بتأكيده أن “وثيقة سبتمبر لا تعتبر وثيقة جديدة، وهي نفس عملية المفاوضات بين إيران و”4+1″، في إشارة إلى المفاوضات التي أجريت بين الطرفين خلال الفترة من أبريل 2021 وحتى أغسطس 2022 برعاية الاتحاد الأوروبي.
اعتبارات مختلفة
يمكن تفسير تزايد الاتجاه نحو التهدئة بين طهران وواشنطن في هذا التوقيت في ضوء اعتبارات عديدة هي:
1- عدم تأثر الموقع التفاوضي: ربما ترى إيران أن تخفيض كمية اليورانيوم التي تم تخصيبها لا يمثل تحولاً استراتيجياً كبيراً، وإنما يعبر فقط عن تغيير تكتيكي الغرض منه هو إفساح المجال أمام استمرار التفاهمات وربما توسيع نطاقها خلال المرحلة القادمة. وتبدو إيران مطمئنة إلى أن هذا التغيير لا يؤثر على موقعها التفاوضي، فالكمية المتبقية لديها تمثل 18 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي، ويمكن أن تساعدها، في حالة ما إذا أرادت ذلك، أن تصل إلى المرحلة الأصعب وهي مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
2- التركيز في الملفات الداخلية: لا يمكن فصل هذا الاتجاه عن تصاعد اهتمام بعض الأطراف بالملفات الداخلية، خاصة في العراق، حيث يقترب موعد انتخابات مجالس المحافظات، المزمع إجراؤها في 18 ديسمبر القادم، والتي تحظى بأهمية خاصة لكون نتائجها ستكون مؤشراً لتوازنات القوى السياسية قبل الانتخابات البرلمانية القادمة.
كما تصاعدت حدة الأزمة في كركوك نتيجة اندلاع مواجهات مسلحة بعد قرار الحكومة بتسليم بعض مقراتها إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو ما توازى مع استمرار الاحتجاجات في سوريا، ولا سيما في السويداء، نتيجة تفاقم الأوضاع المعيشية، وهي تطورات كلها تبقى محل تقييم مستمر من جانب إيران، التي ترى أن انعكاساتها قد تؤثر على مصالحها ونفوذها في الدولتين.
3- تجنب مواجهة خيارات صعبة: رغم أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حرصت على تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، بالتوازي مع تحركاتها المستمرة على الحدود السورية-العراقية التي أثارت قلق إيران وحلفائها؛ إلا أن ذلك لا ينفي أنها تسعى لتجنب أي تصعيد جديد قد يؤدي إلى إرباك حساباتها مرة أخرى في المنطقة، في وقت تتزايد فيه الضغوط التي تفرضها التطورات التي طرأت على صعيد ملفات أخرى، مثل الحرب الروسية-الأوكرانية.
كما أنها تبذل جهوداً حثيثة من أجل استكمال صفقة تبادل السجناء مع إيران التي لم تتم حتى الآن، وتخشى من أي تصعيد قد ينعكس سلباً عليها، وتعود بمقتضاه الأزمة إلى مربعها الأول من جديد، ولا سيما في ظل وجود تيارات داخل إيران تسعى إلى عرقلة استمرار تلك التفاهمات.
عقبات محتملة
مع ذلك، لا يمكن استشراف المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه التفاهمات، لا سيما وأن التحديات التي يمكن أن تواجهها لا تبدو هينة. فإلى جانب وجود تيارات معارضة لهذه التفاهمات داخل الدولتين، فإن حالة التحفز الحالية التي تبدو عليها أطراف معنية بما يجري، لا سيما إسرائيل والمليشيات الموالية لإيران، يمكن أن تؤدي إلى إرباك الحسابات وعودة التصعيد من جديد.