رغم أن إيران اتجهت إلى تعزيز علاقاتها مع روسيا، لدرجة دفعتها إلى المغامرة بتقديم دعم عسكري للأخيرة، عبر الطائرات من دون طيار، لمساعدتها على إدارة عملياتها في أوكرانيا، على نحو أدى إلى تصاعد حدة التوتر في علاقاتها مع الدول الغربية وفرض تداعيات سلبية على فرص إحياء الاتفاق النووي؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن إيران ما زالت تبدي قلقاً إزاء السياسة الروسية في بعض الملفات الأخرى على غرار الملف السوري ونزاع إقليم ناجورني قره باغ، إلى جانب الاحتجاجات الداخلية الإيرانية نفسها. ومن هنا، ربما يمكن تفسير الدعوات التي بدأت تظهر في إيران مجدداً إزاء ضرورة عدم الاعتماد كلية على “الظهير الروسي”، وتبني سياسة “التقارب الحذِر” في التعامل مع موسكو.
دوافع عديدة
يمكن تفسير تجدد المخاوف الإيرانية إزاء السياسة الروسية في بعض الملفات في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- استبعاد طهران من الوساطة بين أنقرة ودمشق: تراقب إيران بدقة تطورات الجهود التي تبذلها روسيا من أجل تحسين العلاقات بين تركيا وسوريا، خاصة بعد استضافتها الاجتماع الأمني الثلاثي الذي شارك فيه وزراء دفاع روسيا وتركيا وسوريا إلى جانب ممثلي أجهزة الاستخبارات، في موسكو، في 28 ديسمبر الفائت. ورغم أن اتجاهات عديدة ربما اعتبرت أن هذا المسار قد يتوافق مع مصالح طهران، باعتبار أن تحسين العلاقات بين تركيا والنظام السوري يقلص من حدة الضغوط التي يتعرض لها الأخير منذ أكثر من عقد، ويساعد في تعزيز الانفتاح بين سوريا وبعض دول المنطقة، وهو المسار الذي تصاعد في العام الماضي؛ إلا أن اتجاهات أخرى اعتبرت أن الإدارة الروسية لهذا الملف تثير قلقاً خاصاً لدى إيران.
إذ اعتبرت الأخيرة أن استبعادها جاء متعمداً، لتحقيق هدف واحد، يتمثل في تعزيز الدور الروسي في سوريا، باعتبار أن روسيا هي الطرف الأهم الذي لديه القدرة على إعادة صياغة الترتيبات السياسية والأمنية داخل سوريا، بصرف النظر عمّا إذا كانت تتوافق مع مصالح وحسابات إيران من عدمه. وربما يعود ذلك، في قسم منه، إلى قلق موسكو من محاولات طهران استغلال انشغالها في الحرب الأوكرانية لتوسيع نطاق نفوذها في الداخل السوري.
2- سعي موسكو لتقييد تحركات المليشيات: بدأت روسيا في اتخاذ خطوات مناوئة لحضور المليشيات الموالية لإيران، ليس في سوريا فحسب، وإنما في مناطق الصراع الأخرى التي بدأ يتصاعد فيها حضور هذه المليشيات التي تحولت إلى “مجموعات نقّالة” تتواجد أينما تواجدت مصالح إيران. وفي هذا السياق، بدأت وسائل إعلام إيرانية في شن حملة ضد روسيا بسبب قرار اتخذته بتسليم 15 عنصراً من هذه المليشيات إلى السلطات في أذربيجان، واعتبرت أن ذلك مؤشر على أن روسيا تسعى إلى تعزيز دورها في نزاع ناجورني قره باغ بما لا يتوافق مع حسابات طهران، التي تسعى بدورها إلى إعادة صياغة الترتيبات الأمنية في تلك المنطقة، بما لا يسمح بتغيير توازنات القوى لصالح أذربيجان بشكل صارخ.
3- عزوف روسيا عن دعم النظام في مواجهة الاحتجاجات: رغم أن الدول الغربية أبدت دعماً بارزاً للاحتجاجات التي اندلعت في إيران، منذ منتصف سبتمبر الماضي وحتى الآن، على نحو دفعها إلى فرض عقوبات على العديد من المسئولين العسكريين والأمنيين الإيرانيين، فضلاً عن تقليص الاهتمام بالوصول إلى صفقة نووية جديدة عبر المفاوضات التي تعثرت في فيينا منذ أغسطس الماضي؛ إلا أن روسيا بدت عازفة عن تقديم الدعم للنظام الإيراني في مواجهة هذه الضغوط، رغم أن الأخير ما زال حريصاً على تأكيد أن هذه الاحتجاجات من تدبير جهات خارجية تسعى إلى تقويض دعائمه ونشر الفوضى في إيران.
وربما انحصر الموقف الذي اتخذته موسكو في محاولة تدعيم الجهود الإيرانية للإبقاء على احتمالات الوصول إلى اتفاق نووي جديد في مواجهة تراجع الاهتمام الغربي بهذا الملف تحديداً. وقد بدا ذلك جلياً في التغريدة التي كتبها المندوب الروسي لدى المنظمات الدولية في فيينا ميخائيل أوليانوف، على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” في 2 يناير الجاري، والتي قال فيها إن “أي بديل عن الاتفاق النووي مع إيران قد تكون له آثار سلبية للغاية على الأمن الإقليمي”، مضيفاً: “هناك طرق دبلوماسية موثوقة للتحقق ممن هو الطرف الجاد في الاتفاق النووي ومن ليس كذلك”.
وقد دفع ذلك اتجاهات عديدة في إيران إلى تأكيد أن روسيا تتعاطى مع التطورات التي تشهدها الملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانب إيران بما يتوافق مع مصالحها وحساباتها، وليس بالضرورة بما يدعم مواقف إيران إزاء هذه التطورات. وهنا، فإن هذه الاتجاهات لا ترى أن انشغال روسيا في مواجهة الضغوط والعقوبات الغربية التي تعرضت لها بسبب الحرب في أوكرانيا التي قاربت على إتمام عامها الأول، لا يعد مبرراً لعزوفها عن تقديم الدعم لإيران في مواجهة الضغوط والعقوبات التي تتعرض لها بدورها، خاصة أن قسماً من هذه الضغوط والعقوبات نابع من إمعان إيران في تقديم دعم عسكري إلى روسيا عبر تزويدها بالطائرات من دون طيار، وفي مقدمتها الطائرة “شاهد 136″، لمساعدتها في إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا. كما أن التقارير التي تشير إلى احتمال إقدام روسيا على تزويد إيران بمقاتلات “سوخوى 35″، لا تعني أن حسابات موسكو إزاء الملفات الإقليمية التي تحظى باهتمام خاص من جانب طهران قد طرأ عليها تغيير بارز، إذ إنها في النهاية تبدو آلية لإدارة التصعيد مع الدول الغربية بسبب الحرب الأوكرانية.
4- استمرار التنسيق الروسي-الإسرائيلي: تبدي إسرائيل قلقاً ملحوظاً إزاء تبعات الدعم العسكري الإيراني لروسيا في أوكرانيا، خاصة على صعيد الملف السوري، ومن هنا فإنها اتجهت إلى رفع مستوى عملياتها العسكرية داخل سوريا، والتي تستهدف عبرها المواقع التابعة لإيران والمليشيات الموالية لها، وكان آخرها الضربات التي استهدفت مطار دمشق وأدت إلى خروجه من الخدمة لساعات، في 2 يناير الجاري.
ومن دون شك، فإن هذه الضربات الإسرائيلية المتكررة، والتي تتوقع إيران أن تتواصل وربما تتصاعد خلال المرحلة القادمة بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو، لم تتم بدون التنسيق بين إسرائيل وروسيا، التي تعتبر أن ذلك يمثل إحدى الآليات التي تستخدمها لوضع حدود للوجود العسكري الإيراني في سوريا.
خيارات محدودة
مع ذلك، لا يبدو أن إيران في وارد أن تتراجع عن تعزيز علاقاتها مع روسيا، إذ إن التطورات التي طرأت على الساحة الداخلية، فضلاً عن الضغوط التي تواجهها على الساحتين الإقليمية والدولية، لا توفر لإيران خيارات متعددة في هذا السياق. ومن هنا، فإنها ستواصل، على الأرجح، تطوير علاقاتها مع روسيا، لكن مع الوضع في الاعتبار أن هذه العلاقات لها حدود على الأرض، تفرضها مصالح وحسابات موسكو إزاء الملفات الإقليمية المختلفة.