انعكاسات كييف:
هل تتبنى أوروبا سياسة “إعادة تموضع” تجاه أزمات المنطقة؟

انعكاسات كييف:

هل تتبنى أوروبا سياسة “إعادة تموضع” تجاه أزمات المنطقة؟



تزايدت مؤشرات اندلاع حرب جديدة في أوروبا على خلفية الصراع حول الأزمة الأوكرانية بين روسيا والدول الغربية. ولم تقلص المحادثات الروسية- الغربية من احتمالات اتساع نطاق التوتر حول الأزمة خلال المرحلة القادمة، على نحو دفع دولاً غربية عديدة إما إلى سحب عائلات دبلوماسييها من كييف، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية التي اتخذت قراراً في هذا الصدد في 23 يناير الجاري، أو دعوة مواطنيها إلى تجنب السفر غير الضروري إلى هناك مثل فرنسا التي تبنت هذه الخطوة بعد يوم واحد من ذلك. وفي كل الأحوال، فإن هذه الأزمة الجديدة، التي قد تتبعها أزمات أخرى تفرضها إشكاليات العلاقات بين روسيا والدول الأوروبية، باتت تطرح تساؤلات عديدة حول مدى إمكانية اتجاه الأخيرة إلى تبني سياسة “إعادة تموضع” إزاء أزمات منطقة الشرق الأوسط، خاصة في ظل مخاوفها من ارتفاع كُلفة الانخراط المكثف في شئون المنطقة في الوقت الذي باتت الأزمات التي تواجهها تحظى بالأولوية، لاسيما أنها تفرض تداعيات لا تبدو هينة على أمنها ومصالحها، بالتوازي مع تركيزها على آليات مختلفة عن تلك التي تتبعها قوى دولية أخرى، مثل روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، في تعاملها مع التطورات التي تشهدها تلك الأزمات.

متغيرات رئيسية

لم تكن الدول الأوروبية بعيدة عن الجدل المتعلق بديناميات التفاعل بين القوى الخارجية ومنطقة الشرق الأوسط، حيث أثارت سياسات الدول الأوروبية شكوكاً حول إمكانية اعتماد دول المنطقة على القوى الأوروبية كفاعل هام يمكن المراهنة عليه، وخاصة مع التحول في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة وتقليل الاشتباك الأمريكي المباشر مع ملفاتها. وعزز من هذه الهواجس لجوء بعض الدول الأوروبية إلى سياسات الانسحاب التي دشنتها مؤخراً على مستوى الأزمات الإقليمية. ويمكن القول إن مسار تقليل الانخراط المباشر في أزمات المنطقة يكتسب وجاهته في ضوء عددٍ من المتغيرات الرئيسية التي يتمثل أبرزها في:

1- تراجع مستوى الوجود العسكري: فخلال الشهور الماضية، كشفت بعض الدول الأوروبية عن سياسة تقليل التواجد العسكري الخارجي، ومنها ألمانيا التي سحبت كافة قواتها من أفغانستان بنهاية شهر يونيو الماضي، كما بدأت فرنسا خطوات جادة نحو تقليص قواتها في مالي، وخاصة بعد تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في شهري يونيو ويوليو الماضيين، التي أشار فيها إلى أن فرنسا ستبدأ في إعادة هيكلة وجودها العسكري في منطقة الساحل الإفريقي. ويلاحظ أن تقليل التواجد في مالي استحوذ على اهتمام رئيسي من قبل الرئيس الفرنسي، إذ ذكر في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس النيجر محمد بازوم، في 9 يوليو الماضي، أن “بلاده ستبدأ في إغلاق قواعدها العسكرية في شمال مالي بشكل تدريجي”، وأوضح أن “إغلاق بعض هذه القواعد سيستكمل مع نهاية عام 2021، وأن الوجود العسكري الفرنسي سيعتمد على قرابة 2500 عسكري أو 3000 رجل”. وفي ضوء هذه التصريحات تم سحب القوات الفرنسية من قواعد: كيدال، وتساليت، وتمبكتو العسكرية، في مالي بحلول نهاية عام 2021.

2- ضعف نتائج التدخل في أزمات محددة: تتسم الملفات الإقليمية في الشرق الأوسط بدرجة كبيرة من التعقيد تفرض صعوبات أمام نجاح الدول الأوروبية في صياغة دور حقيقي وفاعل بالمنطقة، بل بالعكس ربما تكون بعض التدخلات الأوروبية في قضايا المنطقة قد أثرت بالسلب على الدور الأوروبي ودرجة الثقة فيه. ولعل هذا ما يتجلى مثلاً في حالة التدخل الفرنسي في الأزمة اللبنانية، وانكشاف العجز الفرنسي عن حلحلة الأزمة السياسية الداخلية سريعاً. كما تظهر صعوبة المراهنة على الدور الأوروبي في بعض القضايا على غرار القضية الليبية والسورية واليمنية، وخاصة مع تدخل أطراف إقليمية ودولية أكثر نفوذاً في هذه القضايا.

3- التخوف من التكلفة المرتفعة: لا تنفصل سياسة تقليل التدخل الأوروبي المباشر في أزمات المنطقة عن حسابات التكلفة، فالكثير من قضايا المنطقة تنطوي على تكلفة هائلة إذا اختارت الدول الأوروبية التدخل المباشر والمكثف فيها. فضلاً عن التهديدات الأمنية التي يمكن أن تترتب على التدخل. ويعزز من معضلة التكلفة تصاعد التهديدات التي يوجهها تنظيم “داعش” مؤخراً ومحاولته إعادة تشكيل صفوفه مجدداً في سوريا والعراق. فعلى سبيل المثال، نفذ تنظيم “داعش”، في 21 يناير الجاري، هجوماً في محافظة ديالى استهدف مقراً للجيش العراقي وأفضى إلى مقتل 11 جندياً عراقياً. وظهر هذا النمط أيضاً في الحالة السورية، حيث شن التنظيم عدداً من الهجمات في الشهور الأخيرة، كان آخرها الهجوم الذي نفذه في 20 يناير الجاري، ضد سجن “غويران” بمحافظة الحسكة شمال شرق سوريا، مما أدى إلى فرار عدد من العناصر التابعة له.

4- الافتقاد لسياسة أوروبية واحدة: لا يوجد موقف أوروبي واحد إزاء أزمات المنطقة، بل مواقف متعددة، وفي بعض الأحيان متناقضة. إذ تشهد بعض الملفات اختلافات بين رؤى وتوجهات الدول الأوروبية، وحتى مع الطموحات الفرنسية للاضطلاع بدور كبير في الشرق الأوسط، فإنه من الصعب القول بإمكانية قيام باريس بهذا الدور منفردة، لأنها في المقام الأول تدرك أن ذلك يحتاج إلى دعم وظهير أوروبي.

5- تصاعد تأثير الأزمات الأخرى: تفاقمت الأزمة في أوكرانيا مؤخراً في ظلّ الحديث عن إمكانية غزو روسي مرتقب للأراضي الأوكرانية، وهو ما فرض حالة من التوتر بين روسيا والدول الأوروبية التي تنظر إلى التصرفات الروسية تجاه كييف بوصفها تهديداً لها، وحاولت الدول الأوروبية التعبير عن دعمها لأوكرانيا، حيث قام وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في 5 يناير الجاري، بزيارة كييف، وأشار إلى أن الزيارة تهدف إلى “إظهار دعم الاتحاد الأوروبي لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها في مواجهة الحشد العسكري الروسي”.

أدوات ناعمة

مع ذلك، فإن هذه المتغيرات -في مجملها- لا تعني الابتعاد الأوروبي الكامل عن قضايا المنطقة، لا سيما مع تقاطع المصالح الاقتصادية والأمنية بين المنطقة وأوروبا. وفي هكذا سياق، يرجح أن يتزايد اعتماد الدول الأوروبية على أدوات ناعمة في إدارة تفاعلاتها بالمنطقة، وتتضمن هذه الأدوات الاستمرار في تقديم المساعدات الاقتصادية والدعم لبعض الدول المأزومة، مثل لبنان؛ حيث تقود باريس جهوداً رئيسية في ملف المساعدات الدولية والدعم الاقتصادي لبيروت.

وفي السياق ذاته، ربما تعمل الدول الأوروبية على صياغة أطر جديدة للشراكة الاقتصادية مع دول المنطقة، فضلاً عن مواصلة الحضور الأوروبي في المفاوضات الخاصة بأزماتها، على غرار الملف النووي الإيراني. وهكذا، يمكن القول إن الدول الأوروبية لن تخاطر بانخراط مكثف ومباشر في أزمات المنطقة، كأن ترسل قوات عسكرية لتأمين بعض الدول، وستكتفي بأنماط معينة من الحضور لا يترتب عليها تكلفة باهظة.