بدأت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في اتخاذ خطوات جديدة للتعامل مع التطورات التي طرأت على الساحة السورية خلال الفترة الماضية، على نحو لا يمكن فصله عن متغيرات عديدة، على غرار الاستعداد مسبقاً لإمكانية تراجع الدور الروسي في سوريا، على خلفية انشغال موسكو في إدارة الحرب في أوكرانيا، واهتمام واشنطن بمواصلة الحرب ضد تنظيم “داعش” ومنعه من العودة إلى المناطق التي كان يسيطر عليها في السابق، ومواصلة امتلاك أوراق ضغط في مواجهة تركيا، في ظل السياسة المزدوجة التي تتبناها إزاء بعض الملفات الخلافية العالقة بين الطرفين، وتوجيه رسائل طمأنة لحلفائها في شمال شرق سوريا تفيد استمرار التزامها بتقديم الدعم لهم.
أعلنت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس جرينفيلد، خلال مؤتمر بروكسل السادس حول “دعم مستقبل سوريا والمنطقة”، الذي استضافه الاتحاد الأوروبي، في ١٠ مايو الجاري، أن الولايات المتحدة ستقدم ما يقرب من ٨٠٨ مليون دولار كمساعدات إنسانية إضافية استجابة للأزمة السورية، على نحو يزيد إجمالي المساعدات الإنسانية التي قدمتها الحكومة الأمريكية إلى السوريين منذ بداية الأزمة التي استمرت لمدة ١١ عاماً إلى ما يقرب من ١٥ مليار دولار.
وفي 11 مايو الجاري، أكدت وزارة الخارجية الأمريكية خلال اجتماع “التحالف الدولي ضد تنظيم داعش” الذي عقد في المغرب، أنها ستسمح ببعض الاستثمارات الأجنبية في شمال شرق سوريا، دون التعرض للعقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا، ولا سيما “قانون قيصر”. وبعد ذلك بيوم واحد، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية ومكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع للوزارة الترخيص العام الثاني والعشرين في سوريا، الذي يهدف إلى تحسين الظروف الاقتصادية في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام السوري في شمال شرق وشمال غرب سوريا ودعم جهود الاستقرار المستمرة في تلك المناطق.
محددات حاكمة
تطرح هذه التحركات الجديدة دلالات عديدة ترتبط بمحددات السياسة الأمريكية تجاه تطورات الأزمة في سوريا، يتمثل أبرزها في:
1- الاستعداد المسبق لتراجع الدور الروسي: ربما تسعى الإدارة الأمريكية من خلال ذلك إلى الاستعداد بشكل مسبق لاحتمال تراجع الدور الروسي على الساحة السورية. إذ لا يبدو أن الحرب سوف تنتهي قريباً في أوكرانيا، في ظل الدعم العسكري الذي تقدمه الدول الغربية للأخيرة بالتوازي مع فرض عقوبات قوية على روسيا، على نحو سوف يزيد من الضغوط التي تتعرض لها الأخيرة وربما يدفعها إلى تقليص اهتمامها بما يجري على الساحة السورية من تطورات لصالح إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا ومواجهة الضغوط الغربية، وهو ما يمكن أن يوفر فرصة لتعزيز الحضور الأمريكي في سوريا، خاصة من خلال الآلية الاقتصادية التي تتمثل في السماح باستثمارات في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
2- استمرار آلية الضغط على النظام السوري: فرضت الإدارات الأمريكية الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة منذ اندلاع الأزمة السورية، سلسلة من العقوبات ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد وبعض المسئولين والكيانات الحكومية، على خلفية اتهامهم بقمع المتظاهرين. وبينما تسمح الإدارة الأمريكية ببعض الاستثمارات الأجنبية في مناطق تقع في شمال شرق سوريا، فإنها ترفض السماح بأي أنشطة مع الحكومة السورية، حيث تؤكد عدم رفع العقوبات المفروضة عليها قبل إحراز تقدم في الحل السياسي، لتظل آلية العقوبات، وفقاً لنائب مساعد وزير الخارجية لملف سوريا وبلاد الشام في مكتب شئون الشرق الأدنى إيثان جولدريتش، أداة حيوية للضغط من أجل المساءلة في سوريا، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين ارتكبوا تجاوزات وانتهاكات جسيمة ضد حقوق الإنسان.
وفي سياق استمرار الضغوط على النظام السوري، قررت الإدارة الأمريكية تمديد حالة الطوارئ، التي فرضت في عام ٢٠٠٤ على خلفية اتهام النظام السوري بدعم التنظيمات الإرهابية في لبنان والعراق لعام آخر بداية من ١١ مايو الجاري، استناداً إلى أن الأوضاع الداخلية السورية تمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، وأن دعم نظام بشار الأسد للإرهاب وزعزعة استقرار لبنان والعراق، والمضى قدماً في برامج الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل، بالإضافة إلى قمعه المتظاهرين، لا يُعرِّض الشعب السوري للخطر فحسب بل إنه يخلق حالة من عدم الاستقرار في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
3- تشجيع الأسد على التسوية السياسية: في ظل تعثر التوصل لحل سياسي وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم ٢٢٥٤، وكذلك رفض الولايات المتحدة العمل العسكري لحل الأزمة السورية، ربما تهدف التحركات الأخيرة للإدارة الأمريكية، لا سيما فيما يتعلق بالسماح بالاستثمار في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الأسد، إلى جعلها نموذجاً للاستقرار في سوريا، بما يوجه رسالة للنظام السوري بأنه إذا كان على استعداد للمشاركة في عملية سياسية ذات مغزى، والانخراط في الإصلاح، فهناك فرصة للانتعاش الاقتصادي والتعايش معه.
4- تعزيز جهود هزيمة تنظيم “داعش”: يكشف الإعلان عن عدم فرض عقوبات على الاستثمارات في شمال شرق سوريا خلال مشاركة الولايات المتحدة في اجتماع “التحالف الدولي ضد تنظيم داعش” بالمغرب، عن أن الإدارة الأمريكية باتت تعتبر ذلك أحد محاور الاستراتيجية التي تتبناها لهزيمة التنظيم الإرهابي من خلال تعزيز الاستقرار الاقتصادي في المناطق المحررة التي كانت تحت سيطرته في السابق، وذلك لمنع عودته مجدداً والسماح له باستقطاب عناصر محلية من تلك المناطق. وقد سبق أن خصصت الولايات المتحدة أموالاً لجهود تحقيق الاستقرار في المناطق التي انتزعها حلفاؤها من التنظيم. كما يأتي سماح الولايات المتحدة بالاستثمار في شمال شرق سوريا بعد أن برزت مؤشرات عديدة تفيد أن هناك اهتماماً من جانب شركات خاصة يعمل بعضها في دول مجاورة لسوريا بإقامة مشروعات في تلك المناطق.
5- الاستمرار في دعم الحليف الكردي: انتابت “وحدات حماية الشعب الكردية”- الحليفة للولايات المتحدة في مواجهة تنظيم “داعش” الذي كان ينشط على الأراضي السورية- حالة من القلق في أعقاب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان قبل حلول الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، رغم أن الإدارة الأمريكية قدمت العديد من التعهدات والتطمينات للقيادات الكردية بأنها لن تتخلى عن حلفائها الذين ساهموا معها في القضاء على التنظيم الإرهابي. وفي هذا السياق، تأتي الاستثناءات والإعفاءات الأمريكية للاستثمار في المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الكردية كنوع من الدعم وإضفاء الشرعية عليها.
ومن دون شك، فإن ذلك سوف يثير استياء تركيا التي تعتبر “وحدات حماية الشعب الكردية” امتداداً لـ”حزب العمال الكردستاني” الذي تصنفه كتنظيم إرهابي. لكن ربما يمكن القول إن ذلك يمثل أحد أهداف التحركات الأمريكية الأخيرة، التي تسعى من خلالها واشنطن إلى مواصلة امتلاك أوراق ضغط في مواجهة أنقرة، لا سيما في ظل السياسة المزدوجة التي تتبناها وتبدو جلية في محاولاتها الحفاظ على علاقات متوازنة مع طرفى الحرب في أوكرانيا، رغم الضغوط التي تتعرض لها من جانب الدول الغربية.
6- الحفاظ على وحدة الأراضي السورية: في ظل المخاوف من أن يؤدي سماح الإدارة الأمريكية للقطاع الخاص بالاستثمار دون الخضوع للعقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا في مناطق تحت سيطرة الأكراد، إلى نوع من الحكم الذاتي لهم، أشارت زهرة بيل مديرة ملف العراق وسوريا في مجلس الأمن القومي الأمريكي، إلى أن تلك الخطوة لا تعزز أو تدعم أو تؤيد الحكم الذاتي في أي جزء من سوريا، حيث تلتزم الولايات المتحدة بوحدة أراضي سوريا. وقال إيثان جولدريتش نائب مساعد وزير الخارجية لملف سوريا وبلاد الشام في مكتب شئون الشرق الأدنى أن الترخيص الأمريكي الأخير ليس خطوة سياسية ولكنه خطوة اقتصادية وخطوة استقرار للمساعدة في تحسين ظروف الأشخاص الذين يعيشون في المناطق غير الخاضعة للنظام السوري. كما أن الترخيص لا يمتد إلى النفط، الذي يقع معظمه في شمال شرق سوريا، وهو مصدر حيوي للدخل للإدارة المستقلة التي يقودها الأكراد.
تحول محتمل
أكد أكثر من مسئول أمريكي أن سماح إدارة الرئيس جو بايدن باستثمارات القطاع الخاص وأنشطة أخرى في المناطق غير الخاضعة لسيطرة نظام بشار الأسد في شمال شرق سوريا دون التعرض للعقوبات الأمريكية المفروضة على الأخيرة، لا يكشف عن تغيير في الاستراتيجية الأمريكية تجاه النظام السوري، القائمة على استخدام آلية العقوبات ضده، وعدم تطبيع العلاقات معه حتى يتم إحراز تقدم لا رجعة فيه نحو حل سياسي للصراع يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٥٤، وكذلك الاستمرار في معارضة عملية إعادة الإعمار الموجهة من قِبَله أو تلك التي تخدمه، أو التي لن تصب، في رؤيتها، إلا في صالحه. ومع ذلك، فإن المتغيرات التي طرأت على الساحة الدولية في الفترة الماضية، بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، توحي بأن الإدارة الأمريكية تسعى إلى توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع التطورات التي تشهدها العديد من الملفات الإقليمية، وفي مقدمتها الملف السوري، وهو توجه قد يكتسب دفعة جديدة في حالة ما إذا توصلت إلى تفاهمات مع إيران تزيد من احتمالات إبرام صفقة جديدة حول الاتفاق النووي في المفاوضات التي توقفت في فيينا منذ أكثر من شهرين.