ما يجري في إيران الآن من مواجهةٍ متصاعدةٍ بين المجدّدين «الليبراليين» والمحافظين لا يهم الإيرانيين وحدهم بل يهم المنطقة كلها، فأي حسمٍ لهذا الصراع في هذا الاتجاه أو ذاك ستكون له انعكاساته المباشرة في الإقليم كله، وفي المقدمة الدول العربية المتاخمة والمحاددة والدول الإسلامية المطلة، خصوصاً تركيا وباكستان.
إنّ إيران تعد قوة إقليمية بالنسبة لدول الإقليم، ولذلك فإنها في القرن العشرين – كما كانت في القرون التي سبقته – محور رئيسي في هذه المنطقة، ولعلَّ ما يمكن التذكير به في هذا المجال هو أن طهران كانت جبهةً متقدمةً للغرب الذي انتقلت قيادته في نحو منتصف القرن الماضي من بريطانيا العظمى إلى الولايات المتحدة أيام صراع المعسكرات والحرب الباردة.
كان يقابل الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، في ذلك الحين في زمن الحرب الباردة وصراع المعسكرات، شاه إيران محمد رضا بهلوي، وكانت طهران الخندق الغربي المقابل للقاهرة التي كانت خندق المعسكر الشرقي في المنطقة العربية، ولذلك فإن تطورات النصف الثاني من عقد السبعينات التي انتهت بانهيار عرش الطاووس قد اعتبرت انتصاراً لعرب المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي، وهذا مع أن الرئيس السادات كان قد أخرج مصر من الدائرة الشرقية ووضعها في الدائرة الغربية.
لم يكن العرب بصورة عامةٍ ينظرون إلى الشاه السابق إلّا على أنه في الحلف المعادي للقضايا العربية وأهمها قضية فلسطين، ولقد كان عنوان انحياز طهران في ذلك الحين ضد العرب وقضاياهم ذلك المكتب التجاري الإسرائيلي الذي كان يقع في أحد أهم الشوارع بالعاصمة الإيرانية، والذي ثبت أنه كان سفارةً فعليةً بمستوى أهم السفارات الغربية، وحقيقة أنه كان من إنجازات الثورة الخمينية الإسلامية أنها حولتها إلى سفارة فلسطينية لا تزال قائمة حتى الآن.
ولذلك ولأن إيران تحتلُّ موقعاً مركزياً ورئيسياً في المنطقة، فإنّ انتصار الثورة وإسقاط عرش الطاووس في مثل هذا الوقت من عام 1979، قد أحدث زلزالاً في هذه المنطقة كلها، وأحسَّ الذين يعدون أنفسهم جزءاً من الحلف الشرقي الذي كان يقوده الاتحاد السوفياتي أن عمقهم أصبح يمتد من بيروت إلى خراسان، وأنّ انهيار نظام الشاه السابق سيتبعه انهيار أنظمةٍ مجاورةٍ كثيرة!!
ثم ولأن قادة «الثورة المنتصرة»!! قد رفعوا شعار «الثورة الدائمة» على غرار ما كان فعله ليون تروتسكي بعد انتصار الثورة البلشفية قبل اثنين وستين عاماً من انتصار الثورة الخمينية، فقد أخذت دول تتكتّلُ من قبيل الدفاع الذاتي، ولقد جرى ذلك الالتفاف حول صدام حسين الذي كان قد انتدب نفسه وانتدبه الغرب كله وفي مقدمته الولايات المتحدة، لاستيعاب الزلزال الإيراني ومحاصرته.
وهكذا، فإن كل الأنظار في هذه المنطقة وفي العالم قد اتجهت في تلك الأعوام «الحواسم» نحو إيران، فالحدث الإيراني أصبح حدثاً داخلياً في أكثر من دولة، وحيث إن قوى المعارضة الإسلامية والقومية واليسارية أيضاً باتت تشعر بأنها غدت قادرة على فرض توجهاتها وبرامجها على الأنظمة القائمة، وأنه بإمكانها، إنْ هي أرادت، التدخل في شؤونها الداخلية.
ثم وإن الاتحاد السوفياتي، الذي كانت فرحته بإسقاط الشاه محمد رضا بهلوي بطول الأرض وعرضها، ما لبث أن أخذ يشعر بأن أمواج الزلزال الإيراني بدأت تتحرك تحت أقدامه، وأنّ الثورة التي انتصرت في أهم دولةٍ متاخمةٍ قد أنعشت آمال الحركات التحررية في كل جمهورياته الإسلامية، وأنه أصبح بإمكانها الانعتاق والتحرر من نظام إلحادي استبدادي طال زمنه واشتدّت هيمنته وتعاظم استبداده.
وكذلك، فإن حتى الاتحاد السوفياتي الذي كان قد أبدى ارتياحاً في البدايات ما لبث أن انضم إلى جبهة مساندي صدام حسين التي كان هدفها، المعلن والسري، استيعاب الثورة الإيرانية وإسقاطها، وكما تم قبل ذلك إسقاط ثورة مصدق، والحقيقة أنّ حرب الثمانية أعوام التي كانت قد امتدت من عام 1980 إلى عام 1988 لم تكن مجرد حربٍ عراقية – إيرانية، بل كانت حرباً إقليمية وعالمية، وذلك باستثناءات قليلة، وهكذا فإنه بالنسبة للثورة الخمينية فقد أصبح هناك اعتقاد جازم بأنها لن تبقى محصورةً في إيران، وهذا إن لم يتم التصدّي لها واستيعابها وهي لا تزال في البدايات.
وهنا، فإن الحقيقة ومرةً أخرى أن الزلزال الإيراني الذي أحدثته ثورة فبراير (شباط) الخمينية كان بالإمكان أن يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه الزلزال السوفياتي بعد انتصار ثورة الأيام العشرة «التي هزّت العالم» لو أن صدام حسين لم يتصد لتمدد ثورة الخميني.
وعليه، فإنه لم تهدأ هذه المنطقة منذ نهايات عقد السبعينات من القرن الماضي وحتى الآن، وحتى في الفترات العابرة التي شهدت أحداثاً أكثر استدراجاً للأضواء والاهتمام، وإنّ النظرة من أطراف العيون بقيت مسلطةً على إيران، وبقيت العواصم القريبة والبعيدة تراقب بأعلى درجات الحذر تواصل المواجهات والتصفيات بين مراكز النفوذ والقوة الإيرانية في الفترة التي كان لا يزال فيها الخميني على قيد الحياة، وأيضاً في الفترات اللاحقة.
لقد كانت القوى الداخلية الإيرانية تتشكل وتتباعد وتتقارب وتنخرط في حروبٍ اتخذت طابع التصفيات الجسدية في بعض الأحيان، وطابع التصفيات السياسية في أحيان كثيرة، وكانت الدول المجاورة ومعها العالم كله، تراقب هذه التطورات عن كثبٍ، فالحدث الإيراني ومهما كان داخلياً ومحلياً، فإنه بالنتيجة لا بد أن يؤثر في الإقليم كله، وسيؤثر أيضاً وإن بمقدارٍ أقل، على أكبر وأهم دول العالم، فإيران دولةٌ مركزيةٌ ومحورية في هذه المنطقة وفي العالم بأسره!!
لقد برزت في إيران منذ الأيام الأولى للثورة وكمحصلةٍ لواقع هذه الثورة وتركيبتها، مراكز قوى كانت في عهد الخميني مضطرةً إلى التعايش رغم أنوف رموزها وقادتها، وهذه المراكز هي بالإضافة إلى «المرجعية» الأولى التي انتقلت إلى علي خامنئي الذي أصبح المرشد الأعلى للثورة الإيرانية بعد رحيل الخميني، مُفجّر هذه الثورة، هي: مجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس صيانة الدستور ورئاسة الجمهورية و«الحرس الثوري» والجيش الإيراني بالطبع والقوى والتكتلات التي تدور في أفلاك مراكز القوى هذه كلها.
والآن، وإذْ تحتدم المواجهة بين المحافظين الذين يشدّون إلى الخلف و«الليبراليين» الذين يشدّون إلى الأمام، فإنّ رئاسة الجمهورية الإيرانية ممثلة بالرئيس إبراهيم رئيسي تبدو المركز الأضعف بين كل هذه المراكز التي يعد أهمها على الإطلاق مركز «صيانة الدستور» الذي يُعد أنه سيف مرشد الثورة علي خامنئي المسلّط على رؤوس ورقاب الليبراليين الذين يحاولون الانتقال بالثورة إلى وضعٍ جديدٍ ينسجم مع التطورات الكونية التي استجدت مع مطلع الألفية الجديدة.
وحقيقة، فإن السؤال الذي يتردد الآن هو: ماذا يا ترى سيحدث في هذا الإقليم وفي هذه المنطقة وفي العالم أيضاً إذا تجاوزت المواجهات الإيرانية المحتدمة الآن حدود التعايش وما يمكن أن يسمَّى تغليب التناقضات الثانوية على التناقض الرئيسي والصراع في إطار الوحدة؟! ولذلك فإنه إذا اتخذت هذه المواجهات الشكل الأعنف وتحوّلت من مجرد صدامات عابرة ومماحكات سياسية وبرلمانية إلى حربٍ أهلية مدمِّرة، فإن إيران هذه ستصبح ممزقة طالما أنها تتكون من قوميات متعددة ومن مجموعات دينية متعددة وكثيرة!!
نقلا عن الشرق الأوسط