السيناريو الأسوأ:
هل استعدّت المنطقة لاحتمال توسع الحرب الروسية-الأوكرانية؟

السيناريو الأسوأ:

هل استعدّت المنطقة لاحتمال توسع الحرب الروسية-الأوكرانية؟



تتواتر الاعتراضات الروسية على إعلان حلف شمال الأطلسي “الناتو” إمكانية حصول فنلندا على عضويته، ضمن تأكيده على عدم التخلي عن سياسة “الباب المفتوح” لضم العديد من الدول الأوروبية إليه، وهو ما اعتبرته موسكو تهديداً أكيداً لها. وقد جاءت تلك الاعتراضات عقب سلسلة من التحذيرات الروسية لتدخل أي دولة في الحرب إلى جانب أوكرانيا، وقبيل ذلك بأيام قليلة ركزت وسائل الإعلام العالمية- بمناسبة احتفالات يوم النصر في روسيا في 9 مايو الجاري- على الطائرة الرئاسية الروسية (اليوشن إل-80) التي يطلق عليها “الكرملين الطائر” خلال العروض العسكرية، ورمزية ظهورها الاستثنائي بعد غياب لنحو عقد عن تلك الاحتفالات، بالإضافة إلى بعض الإجراءات التي تتخذها بعض الدول الأوروبية ذات الصلة بالردع النووي كإجراء احترازي، وكان أبرز ما كشف عنه في هذا السياق، في 13 أبريل الفائت، استعدادات بريطانية لإعادة تحديث مخابئ عسكرية في قاعدة “لاكنهيث” كانت تخزن فيها قنابل نووية (B61) أمريكية قبل نحو 14 عاماً.

تحديات عديدة

تسلط هذه التطورات إجمالاً الضوء على السيناريو الأسوأ للحرب الروسية على أوكرانيا، والذي يتضمن احتمالاً ولو ضعيفاً لخروج هذه الحرب عن السيطرة، بتمددها خارج الجغرافيا الأوكرانية، أو تصعيدها إلى حد استخدام أسلحة غير تقليدية. ففي الأخير، يمكن القول إن روسيا والدول الغربية تستعدان لهذا السيناريو، خاصة وأنه لا يوجد أفق واضح لوضع حد لنهاية هذه الحرب التي قد تمتد لسنوات وفقاً لتصريحات العديد من الساسة الغربيين، وبالتبعية تقديرات الاستخبارات الغربية. ومع كل تطور أو توتر فإن العالم يحبس أنفاسه كعنوان على الخشية من عدم القدرة على احتواء تداعيات هذه التطورات.

وفي المقابل، فإن الشرق الأوسط، ولا سيما العديد من الدول العربية، لا تزال في مرحلة احتواء الآثار الاقتصادية للحرب، بالإضافة إلى المخاوف من تداعيات جانبية أخرى للعمليات العسكرية، مثل تسرب بعض أسلحة الحرب إلى قوى متطرفة، والخبرات التي يمكن أن تنقلها المليشيات المسلحة التي تشارك في هذه الحرب إلى المنطقة لاحقاً على غرار الحرب في أفغانستان، بالإضافة إلى تداعيات الاستقطاب السياسي الذي أعاد أجواء الحرب الباردة ما بين المعسكرين الشرقي والغربي. فقد جاءت تلك الحرب لتفاقم وضع المنطقة المتأزم في العقد الثاني من الصراعات السياسية والمسلحة، وتفشي ظواهر الإرهاب والمليشيات التي رافقت هذا التصدع الكبير في الشرق الأوسط.

ويفرض السيناريو المستقبلي المحتمل لتوسع الحرب في أوكرانيا على هذا النحو العديد من التحديات على دول المنطقة، وهو ما يمكن التطرق إليه في النقاط التالية:

1- وصول الارتدادات الاستراتيجية للمنطقة: سوف يتجاوز توسع الحرب الأوكرانية إلى أوروبا، حتى دون الوصول إلى مرحلة استخدام أسلحة غير تقليدية، الآثار الاقتصادية، ليمتد إلى المربع الأمني والعسكري. وثمة توقعات بأن الحرب قد تكون أقرب إلى نموذج الحربين العالميتين الأولى والثانية من منظور الارتدادات الجيوسياسية لهذا السيناريو، مع الوضع في الاعتبار أن قدراً كبيراً من الترتيبات الأمنية في المنطقة يواكب بطبيعة الحال مسار الحرب في أوكرانيا، فبالنسبة لروسيا، فإن الشرق الأوسط هو إحدى ساحات الانتشار العسكري لها في الخارج، خاصة في سوريا التي شكّلت إحدى ساحات الاستعدادات الروسية للحرب، كخط دفاع وربما إمداد خلفي، وقد كشفت تقارير أمريكية مؤخراً أن تركيا أغلقت مجالها الجوي أمام الطيران الروسي، وهو أمر سيستفز موسكو بطبيعة الحال باعتباره محاولة لتقييد تحركاتها. وفي المقابل، فإن الانتشار العسكري الأمريكي في أوروبا لن يعمل بشكل مستقل عن بقية دوائر الانتشار الأخرى، والأقرب إليها بطبيعة الحال هو الشرق الأوسط، حيث يتم تعزيز القيادة العسكرية الوسطى (الأسطول الخامس) للتنسيق مع الأسطول السادس الأمريكي في أوروبا.

2- مطالبة دول المنطقة بالانخراط في الحرب: لا يمكن استبعاد أن يؤدي توسع الحرب إلى تشكّل دعوة أوروبية لمشاركة قوى من المنطقة فيها، أو دعمها لوجستياً على الأقل، فحتى الآن لا تزال الدعوات مقتصرة على سد فجوة الطاقة، لكن المتصور أن توسع الحرب سيتجاوز هذا الدور، ليس من باب خيارات المشاركة، ولكن من زاوية الخيارات الاضطرارية.

3- تغير البيئة الأمنية في الشرق الأوسط: على النحو الذي تتغير به البيئة الأمنية في أوروبا، من المتوقع أيضاً أن تكون هناك متغيرات أو تطورات مصاحبة في الشرق الأوسط، ليس فقط على صعيد ما سلفت الإشارة إليه من ارتدادات، ولكن بحكم التشابكات مع القوى المنخرطة في هذه الحرب، وتأثيراتها الاستراتيجية المباشرة في البيئة الأمنية في المنطقة، على نحو قد يفرض الحاجة إلى استجابة سريعة من جانب القوى الإقليمية بشكل استباقي حال تحقق هذا السيناريو.

4- تصاعد الصراع على البؤر الرخوة: ربما يساهم احتمال توسع الحرب في تصاعد حدة الصراع على البؤر الرخوة دفاعياً في المنطقة، والتي سوف تحاول بعض القوى استغلالها، ولا سيما في ظل انشغال الدول الغربية بالتطورات التي تشهدها الساحة الأوروبية، وبمواجهة المحاولات الروسية لعرقلة ضم دول أخرى إلى حلف “الناتو”.

5- اتساع نطاق التهديدات الإيرانية: قد يكون المُعادِل لنظرة الدول الأوروبية للخطر الروسي، هو منظور كثير من الدول في الشرق الأوسط للخطر الإيراني، الذي تبدو تداعياته أكثر كارثية على نحو ما هو واضح في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وقد يتنامى هذا الخطر في حالة ما إذا سعت إيران إلى امتلاك قنبلة نووية، وهو ما يطرح مقاربة حول حوار روسيا و”الناتو” قبيل اندلاع الحرب في أوكرانيا لسنوات طويلة، ولا سيما ما بعد سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم، وجولات المحادثات النووية في فيينا التي تجاوزت العام دون أن تسفر عن تقدم ملموس حتى الآن، وفي حال انهيار هذه المحادثات فلا شك أن المنطقة ستشهد فصلاً أسوأ من التهديدات الإيرانية الراهنة، ربما لا يقل في خطورته عن السيناريو الآخر في حال الوصول إلى اتفاق بدون ردع إيران في الملفات الأخرى (الصواريخ – الوكلاء). وبالتالي لم يعد الحوار فقط هو الحل الحاسم لتسوية أو احتواء الخطر الإيراني، وهو ما أكدت عليه العديد من القوى الإقليمية، حيث إن المسار المتبع حالياً مع إيران من جانب القوى الدولية، ولا سيما الدول الغربية، قد يحقق أهداف الأخيرة لكنه لن يردع الخطر الإيراني عن المنطقة، كما أن الترتيبات الأمنية الحالية في الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة تظل أقل مما يمكن تصوره لردع هذا الخطر، والدليل على ذلك تنامي وتيرة الصراعات المسلحة في الساحات التي تتواجد فيها إيران.

6- المسار المعاكس للظواهر الأمنية: يمكن القولإن الظواهر الأمنية قد تتجه، في حالة تحقق هذا السيناريو، في مسار معاكس. ففي العشرية السابقة للفوضى في الشرق الأوسط، كانت مسارات التداعيات تتجه إلى أوروبا التي عانت كأكبر المتضررين من الفوضى الأمنية في المنطقة، التي انعكست في تزايد موجات الهجرة غير الشرعية، وتصاعد عمليات الإرهاب، وغيرها. كما مارست تلك الدول دوراً في التحالف ضد التنظيمات الإرهابية على غرار “داعش” و”القاعدة” وفروعهما. لكن مع اندلاع الحرب على الأراضي الأوروبية نفسها، فإن هذا المسار المعاكس لن يفاقم حالة الفوضى في المنطقة فقط، بل قد يكسبها ظواهر أعنف مما كانت موجودة في السابق.

استعدادات مسبقة

في النهاية، من المتصور أن الدروس التي فرضتها الحرب الروسية على أوكرانيا حتى الآن تفرض على دول المنطقة الوضع في الاعتبار أن حالة الترقب للسيناريو الأسوأ والتعامل معه كرد فعل ستضاعف من كلفة وتداعيات الآثار، خاصة وأن هناك نتيجة منطقية معروفة سلفاً مفادها أن الحروب والصراعات تبدأ لكنها لا تنتهي ويعاد إنتاجها في دورات وطبعات مختلفة. ويمكن القول إن الحرب الروسية-الأوكرانية أثقلت كاهل دول المنطقة، وترجح العديد من التقديرات الدولية أن تكلفة هذه الحرب على منطقة الشرق الأوسط ربما ستكون الأكبر إذا ما قورنت بمناطق وأقاليم العالم الأخرى، نظراً لواقع الاتصال الجيوسياسي، على نحو يفرض على القوى الرئيسية في الإقليم استجابة أسرع للتعامل أولاً مع المهددات والمخاطر الإقليمية، ثم استجابة أكبر لبناء منظومة أمن متعددة الأطراف لمواجهة ما هو قادم.