استحقاق مشروط:
هل أصبحت الانتخابات الليبية ممكنة؟

استحقاق مشروط:

هل أصبحت الانتخابات الليبية ممكنة؟



بشكلٍ عام، مثّل التوافق العسكري في ليبيا فرصة لتحسين البيئة الأمنية وتهيئة الأجواء للعملية السياسية. فقد وضع اتفاق إطلاق النار في ليبيا (أكتوبر 2020) حداً لحرب طرابلس، وأطلق عملية الانتقال السياسي التي تعثرت في نهاية عام 2022 لعدم إجراء الانتخابات. فيما تراهن اتجاهات عديدة على أن يقود التوافق العسكري بين رئاستي أركان القيادة العامة ورئاسة أركان حكومة الوحدة، والتقدم الذي أحرزته اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) مؤخراً في اجتماع طرابلس الذي عقد في 25 مارس الجاري، إلى إنهاء مراحل الانتقال السياسي الفاشلة والتحول إلى مرحلة أكثر استقراراً من خلال معالجة شاملة للقضايا الأمنية والعسكرية المتشابكة بحكم طبيعة الملف الليبي.

وتعكس ردود فعل أغلب القوى الدولية والمحلية تأييداً واسعاً للترتيبات والتفاهمات العسكرية التي تجري في ليبيا خلال المرحلة الحالية تحت عنوان توحيد المؤسسة العسكرية، على الرغم من أن تلك الترتيبات تستهدف في المقام الأول دفع العملية السياسية المتعثرة. دلالة ذلك ما نصت عليه مخرجات بيان الاجتماع الأمني الموسع الذي عقد في طرابلس تحت مظلة اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) وبدعم أممي ودولي، حيث تضمنت تلك المخرجات تشكيل قوة أمنية مشتركة لتأمين العملية الانتخابية، بالإضافة إلى العمل على إنهاء الوجود الأجنبي وإجلاء المرتزقة من البلاد، ونشر قوة أمنية مشتركة لتأمين حقول النفط في الجنوب، بالإضافة إلى عملية ضبط الحدود بهدف تقويض مظاهر الجريمة المنظمة العابرة لها. كما أوصى المشاركون في الاجتماع مجلسي النواب والدولة بالإسراع في الانتهاء من القوانين الانتخابية.

دوافع عديدة

من الناحية الواقعية، ووفق الخبرة الليبية، من الصعوبة بمكان توقع تنفيذ كافة تلك المخرجات المعلن عنها، بالنظر لتعقيدات الملفات المطروحة والتي تحتاج إلى توافق ما بين اللاعبين المحليين والدوليين. ويمكن العودة إلى معظم الاجتماعات التي عقدتها اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) سواء في مقرها بسرت في ليبيا أو في الخارج، حيث تشير مخرجاتها إلى أن هناك قضايا محورية وثابتة مدرجة بشكل دائم على جدول أعمال اللجنة بحكم طبيعة دورها الوظيفي وأهمها، بطبيعة الحال، قضية توحيد المؤسسة العسكرية، وأضيفت إليها أيضاً قضيتا إنهاء الوجود الأجنبي في البلاد، وإخراج المرتزقة الأجانب، على اعتبار أن هذه القضايا تمثل جوهر اتفاق وقف إطلاق النار (أكتوبر 2020)، وهو اتفاق حاكم لعمل اللجنة المشتركة. يلي ذلك تباعاً القضايا المرحلية محل النقاش، وهي القضايا المرتبطة بالشأن السياسي وبحسب التطورات المرحلية.

وعلى الأرجح، تتمثل أبرز القضايا المرحلية الأقرب إلى الإنجاز في المدى القريب، في قضية الانتخابات، وتشكيل سلطة جديدة موحدة تطوي حالة الانقسام السياسي. فكما سلفت الإشارة، تناول النقاش الأمني الواسع تأمين عملية إجراء الانتخابات ثم المرحلة التي ستليها بعد إعلان النتائج وهي تمكين مَن سيفوز بالسلطة التنفيذية والتشريعية، وستجري عملية التأمين عبر تشكيل قوة أمنية مشتركة. ويكشف حضور عدد من قادة الفصائل المسلحة إلى جانب القيادات الأمنية والعسكرية أن هناك توافقاً على استيعاب أكبر عدد ممكن من المجموعات الأمنية لضمان العملية الانتخابية. ويمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة ترجح من إمكانية تحقق هذا المسار وتتمثل في:

1- ضغوط قوى الدفع الخارجية: ترى بعض القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، أن هناك أولويات ضاغطة لإعادة ترتيب الأوضاع الأمنية في ليبيا، على قدم المساواة مع ترتيب الوضع السياسي، وتتصدرها قضية إنهاء وجود مجموعة “فاغنر” الروسية في ليبيا، والتي تظهر بوضوح كمستهدف في الاجتماعات الأخيرة للجنة المشتركة، وما سبقها من الاجتماعات التي عقدها مسئولون كبار في الإدارة الأمريكية، مثل ويليام بيرنز مدير الاستخبارات الأمريكية، مع مسئولين ليبيين، وهي اجتماعات تسلط الضوء على انفتاح غربي غير مسبوق على القيادة العامة للجيش الوطني الليبي، بشكل لافت،  وهو ما يشير إلى متغير رئيسي في المشهد الليبي، من حيث إمكانية تغير التحالفات الخاصة بشرق ليبيا وفي المقدمة منها تحالفات المشير خلفية حفتر.

2- تشكيل القوة الأمنية المشتركة لتأمين حقول النفط: وهي الحقول التي يعتقد أن مجموعة “فاغنر” يمكنها الوصول إليها في منطقة “زيلا” حيث تتمركز “فاغنر” في قاعدة الجفرة، وقد استولت على قاعدة “تمنهنت” من قوة عسكرية موالية لحكومة الوفاق خلال حرب طرابلس 2019، كما تتحرك المجموعة الروسية من الجنوب الليبي إلى الحدود التشادية، حيث تلتقي مصالحها هناك مع المتمردين ضد السلطة الانتقالية في تشاد. وبحسب تقارير غربية، فإن القيادة الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” ستقدم الدعم للقوة المشتركة قيد التشكيل. ومع ذلك من المبكر الحكم على النتائج المرتقبة لهذه الخطوة.

3- الوصول إلى توافق بين الأطراف الداخلية: من الواضح من خلال اتساع حجم اللقاءات المشتركة أن هذه الأطراف استطاعت أن تصل إلى القدر الممكن من التوافق على المصالح المشتركة، ووضع قواعد جديدة لإدارة المشهد في المرحلة المقبلة، يضاف إليها القوى السياسية والاجتماعية والتي ترى أن الأوضاع الداخلية الليبية وصلت إلى طريق مسدود، في ظل افتقار المؤسسات إلى المشروعية، وضرورة الحاجة إلى التغيير. وعلى الرغم من أن هذه القوى مشتتة، ولا تتواجد تحت مظلة سياسية واحدة، لكن لا يمكن تجاهل صدى رفضها لبقاء الأوضاع على ما هى عليه في الفضاء العام الليبي، فضلاً عن أن التقدم في المسار العسكري يشكل نوعاً من الدعم المباشر لهذه القوى، حيث هيمن على المعادلة السياسية في المشهد الليبي عدم توافق مجلسي النواب والدولة خلال الفترة السابقة بشكل مستمر على إنجاز القاعدة الدستورية والقوانين الانتخابية.  

4- تزايد الدعوات للانتهاء من الإطار القانوني: حثّ المشاركون مجلسي النواب والدولة على الانتهاء من الإطار القانوني، على اعتبار أنه أحد الإجراءات المكملة لإتمام المبادرة الحالية. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن هناك خريطة طريق جديدة قد تشكلت وفرضت نفسها على الواقع الليبي، ولم يعد من المنتظر استمرار التجاذبات حول أي خريطة طريق يمكن اعتمادها، ومَن المخول بإعدادها واعتمادها، وتشكل ديناميكية جديدة في المشهد الليبي يمكنها إنتاج آليات جديدة لاستكمال الأطر الإجرائية المطلوبة للوصول إلى الانتخابات.

متغيران رئيسيان

تمثل محصلة هذه الاعتبارات التي تتلاقي في نقطة تغيير المشهد الليبي عبر صندوق الانتخابات وتشكيل سلطة موحدة وتكوين قيادة عسكرية مشتركة، محاولة جادة لوضع حد لجولات الفشل المتكرر في عمليات الانتقال السياسي الليبي، مع الأخذ في الاعتبار عاملين:

الأول، تقويض مظاهر الفوضى الأمنية التي يمكن أن تعرقل العملية الانتخابية ولو في الحد الأدنى الذي يتيح إجراء عملية سياسية مقبولة ومعترف بها. ومن شأن تشكل قوة عسكرية وأمنية مشتركة بناء ميزان قوة جديد في ليبيا لإحكام السيطرة على العملية الأمنية والتصدي للقوى التي قد تسعى إلى عرقلة هذا المشهد الذي قد لا يكون في صالحها.

والثاني، عدم الاعتماد على موقف مجلسي النواب والدولة في ترتيب المشهد المقبل، حيث سيتعين عليهما فقط، في حدود الاتفاق السياسي، القيام بمهمة محددة وهي التوافق على الإطار القانوني للانتخابات. فقد لوح المبعوث الأممي عبد الله باتيلي بأنه يمكنه تجاوز الطرفين إذا ما استمرا في إضاعة الفرص والوقت، وذلك بتشكيل اللجنة التوجيهية كبديل محتمل للمجلسين إن لم يشكلا لجنة (6+6) التي ستكلف بوضع القوانين الانتخابية. وفيما أعلن مجلس النواب عن تشكيل فريقه، يتبقى دور المجلس الأعلى للدولة، وهو ما طالب به باتيلي رئيس مجلس الدولة خالد المشري عقب اجتماع اللجنة الأمنية في طرابلس، ويبدو أن هناك احتمالاً لاستجابة الأخير لهذا المطلب.

فرصة محتملة

في النهاية، يمكن القول إن عجلة الوصول إلى محطة الانتخابات الليبية تدور أسرع مما كان متوقعاً، ما يمنح سيناريو إجراء الانتخابات فرصة فعلية. ومع ذلك، لا يزال من الوارد ظهور عراقيل جديدة، منها، على سبيل المثال، ما يتعلق بوجود سلطة سياسية موحدة خلال الفترة المقبلة، والتي تتطلب جهوداً وتوافقات مختلفة، إضافة إلى احتواء بعض التحركات التي قد تفجر المشهد في المستقبل، كالطعن في خطوة التعديل الدستوري الثالث عشر، فضلاً عن الموقف من دور النظام السابق في المستقبل السياسي. وبالتالي يمكن القول إنه على الرغم من الانفراجة الحالية، إلا أن هناك حاجة لإتمام المزيد من الخطوات للوصول إلى الاستحقاقات المطلوبة.