على الرغم من تركيز الاستراتيجية البريطانية على منطقة الإندوباسيفيك، لمواجهة الصين والبحث عن فرص تجارية جديدة في أعقاب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي؛ فإن لندن بدأت في رفع مستوى اهتمامها مجدداً بمنطقة الشرق الأوسط، التي عادت إلى مركزية الاهتمام العالمي في أعقاب العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا. وفي هذا السياق، قام مدير شئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية البريطانية ستيفن هيكي بزيارة لبنان، في منتصف يونيو الفائت، أعقبتها زيارة وزيرة التجارة آن ماري تريفيليان إلى السعودية بعد ذلك بأسبوع، ثم زيارة وزيرة الدولة لشئون آسيا والشرق الأوسط أماندا ميلينج إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية والأردن، خلال الفترة من ٢٣ إلى ٢٧ من الشهر نفسه، قبل أن تقوم بزيارة البحرين في 3 يوليو الجاري.
محاور متعددة
تكشف زيارة المسئولين البريطانيين المتعددة خلال الشهرين الماضي والجاري لعدد من دول المنطقة عن محاور السياسة البريطانية الحالية تجاه منطقة الشرق الأوسط وقضاياها، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:
١- تأسيس منطقة تجارة حرة مع دول الخليج العربي: بعد جولة من المحادثات مع الهند وكندا والمكسيك لتأسيس اتفاقيات للتجارة الحرة، بدأت وزيرة التجارة البريطانية آن ماري تريفيليان من السعودية، في ٢٢ يونيو الفائت، جولة محادثات رابعة بشأن اتفاقية جديدة للتجارة الحرة مع دول مجلس التعاون الخليجي في مسعى بريطاني لتعزيز العلاقات التجارية مع دول من خارج الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد. وتأتي هذه المفاوضات بعد توقيع لندن اتفاقيتين جديدتين للتجارة الحرة مؤخراً مع كل من أستراليا ونيوزيلندا. وتُعد دول مجلس التعاون الخليجي بمجملها، وفقاً لموقع الحكومة البريطانية، سابع أكبر سوق للصادرات البريطانية، وقد بلغت قيمة صادرات الخدمات البريطانية إلى دول المجلس نحو ١٢,١ مليار جنيه إسترليني خلال العام الماضي. كما تعتبر المملكة المتحدة ثالث أكبر سوق لصادرات دول المجلس. وبلغ إجمالي حجم التجارة بين بريطانيا ودول المجلس في عام 2021 نحو ٣٣,١ مليار جنيه إسترليني.
ويُظهِر تحليل حكومي بريطاني، حسب موقع الحكومة البريطانية، أن من المتوقع أن تؤدي اتفاقية مع دول مجلس التعاون الخليجي إلى زيادة حجم التجارة بنسبة ١٦٪ على الأقل، وإضافة ما لا يقل عن ١,٦ مليار جنيه إسترليني سنوياً إلى الاقتصاد البريطاني، والمساهمة بمبلغ إضافي قدره ٦٠٠ مليون جنيه إسترليني أو أكثر في الأجور السنوية للعاملين البريطانيين.
٢- تعزيز الوجود بمنطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر: انخرطت بريطانيا في التنافس الدولي على منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر التي تشهد منافسة قوية بين الولايات المتحدة والصين لأهميتها الاستراتيجية جغرافياً واقتصادياً وعسكرياً. فبعد إعلان الولايات المتحدة، في 6 يناير الماضي، والصين، في 9 من الشهر نفسه، عن تعيين مبعوث لهما لمنطقة القرن الأفريقي، أعلنت لندن عن تعيين الدبلوماسية سارة مونتجمري كمبعوثة لمنطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، في ٢٢ يونيو الفائت. وتأتي هذه الخطوة في الوقت الذي كان يجري فيه المبعوث الصيني للقرن الأفريقي شيويه بينغ، زيارة لإثيوبيا أعلن خلالها أن بكين تريد أن تمارس دوراً أكثر أهمية في تعزيز السلام والأمن في القرن الأفريقي.
وستتمثل مهمة مونتجمري في قيادة جهود حكومة المملكة المتحدة في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وهي المنطقة الاستراتيجية التي تواجه أزمات عدة، على الصعيدين الأمني والإنساني، حيث تتضافر عوامل مثل التغير المناخي والصراع وعدم الاستقرار وارتفاع أسعار الغذاء العالمية بعد العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، لتُعرِّض العديد من دول تلك المنطقة لخطر المجاعة، ولا سيما أن ثلاث دول في المنطقة (إثيوبيا وكينيا والصومال) تواجه موجة جفاف شديدة، مع تحذيرات من أن الصومال معرضة لخطر المجاعة.
واستناداً لخبرتها بمنطقة الخليج العربي، حيث عملت مونتجمري في السابق بقسم الخليج واليمن وإيران بأمانة الأمن القومي في المملكة المتحدة، فإنها ستشارك في جهود مواجهة الأزمة الإنسانية بالقرن الأفريقي عبر العمل مع حلفاء بريطانيا في تلك المنطقة، والسعى إلى تعميق العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي في قضايا التجارة الحرة والأمن الإقليمي والتغير المناخي، بحسب بيان مونتجمري.
٣- إعادة فتح السفارة البريطانية في ليبيا: بعد ثماني سنوات من إغلاق السفارة البريطانية في ليبيا إثر اندلاع الحرب الأهلية منذ أغسطس ٢٠١٤، أعلنت السفيرة البريطانية في ليبيا كارولين هورندال، افتتاح السفارة رسمياً في ٥ يونيو الفائت، وهو ما يعني وفقاً لها “التزام المملكة المتحدة المستمر بتطوير تعاون وثيق مع ليبيا، والعمل مع الليبيين والأمم المتحدة نحو تسوية سياسية دائمة في ليبيا”. وقد أعلنت السفيرة عن محددات الدور البريطاني في ليبيا القائم على ضرورة التزام الفرقاء الليبيين باتفاق أكتوبر 2020 لوقف إطلاق النار، والعمل مع بعثة الأمم المتحدة في ليبيا لتسهيل عملية سياسية شاملة، ودعم المفوضية الوطنية العليا للانتخابات للمساعدة في إعداد انتخابات ناجحة، وكذلك العمل مع مبادرة التغيير السلمي لتسهيل عمليات بناء السلام على المستوى المحلي في جميع أنحاء البلاد، بجانب تطهير المناطق الملوثة بالمتفجرات من مخلفات الحرب والحد من تأثير الصراع على حياة الليبيين، ودعم أجهزة إنفاذ القانون الليبية لتفكيك الشبكات الإرهابية، وأخيراً تعزيز التنمية الاقتصادية الليبية من خلال العمل على توسيع نطاق التعاون بين الشركات البريطانية ونظيرتها الليبية.
٤- تعميق العلاقات التكنولوجية البريطانية-الإسرائيلية: بجانب تركيز زيارة ميلينج للمنطقة على استمرار الالتزام البريطاني بخيار حل الدولتين للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، فإنها سعت إلى تعميق العلاقات بين لندن وتل أبيب في مجالات العلوم والتكنولوجيا والابتكار، حيث زارت مركز بيريز للسلام والابتكار وكذلك مركز التكنولوجيا متناهية الدقة في الجامعة العبرية للاطلاع على كيف أصبحت إسرائيل دولة الشركات الناشئة، وكذلك على مشاريع الأبحاث والتطوير الرائدة.
٥- دعم اللاجئين السوريين في الأردن: اتساقاً مع نهج باقي الدول الأوروبية التي تولي أهمية كبيرة لملف اللاجئين في منطقة الشرق الأوسط، ودور الأردن في مساعدة اللاجئين الفارين من مناطق الصراعات الإقليمية، ومتابعة المسئولين الأوروبيين خلال زياراتهم للمنطقة كيفية إنفاق الأموال المخصصة للمساعدات؛ زارت أماندا ميلينج مخيم “الأزرق” في الأردن للوقوف على البرامج الإنسانية التي تمولها بريطانيا لدعم اللاجئين. وقد أعلنت عن برنامجين رئيسيين جديدين تمولهما لندن بقيمة إجمالية قدرها ٩٥ مليون جنيه إسترليني لدعم المحتاجين من الأردنيين واللاجئين على حد سواء.
توجه جديد
يبدو أن بريطانيا سوف تتجه نحو مزيد من الانخراط في قضايا وأزمات الشرق الأوسط، ولا سيما في ظل الفرص الاقتصادية التي توفرها المنطقة للندن في أعقاب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن أن التهديدات الأمنية بالمنطقة لها تأثيرات على الأمن الأوروبي والبريطاني. لكن ذلك لا ينفي أن بريطانيا سوف تكون في حاجة إلى رفع مستوى التنسيق مع الحلفاء داخل المنطقة وخارجها لعدم قدرتها بمفردها على مواجهة تلك التهديدات.