تحاول اللقاءات التشاورية العربية لملمة شتات النظام العربي الرسمي على أسس وتفاهمات جديدة وقويّة، بعد الأزمات التي انتابته وعطّلت فاعليته. وإذ تقتصر اللقاءات على دول معيّنة، إلا أن هناك دولاً أخرى تواكب عن بعد لكنها قريبة، بل قريبة جداً، مما يُتداول في القمم واللقاءات المتنقّلة بين القاهرة وأبوظبي والعقبة وبغداد، وانعقد آخرها في مدينة العَلَمين المصرية. ما يجمع بين هذه الدول أنها بمعظمها استطاعت أولاً أن تحافظ على استقرارها، وثانياً أن تُجري مراجعة شاملة وجذرية للمرحلة السابقة، وثالثاً أن تشخّص التحديات الدولية والإقليمية الماثلة وأن تستخلص الاستجابات والتوجّهات الممكنة للتعامل معها، وأخيراً، الأهمّ، أن تحدّد معالم ووسائل التنسيق والتعاون في ما بينها بحيث يكون هناك تدعيم ثابت ودائم لاستقرارها ونمائها الداخليين، أيّاً تكن الظروف.
إذا كان هناك إرهاص لنظام عربي جديد، فإن نظاماً كهذا لا بدّ أن ينبثق من تلك اللقاءات، وبمعزل عن الشكل الذي يتخذه فإنه لن يعيد استنساخ الصيغ السابقة ولن يفسح في المجال لتضامن تنخر فيه انقسامات بيّنة أو دفينة. لذلك فإن العناوين التي طبعت اللقاءات الثلاثية (مصر والأردن والعراق) اختصّت جميعاً بالمشاريع التنموية الممكنة، تنسيقاً وترابطاً، وحين يكون التعاون الاقتصادي فاعلاً ومتفاعلاً ومنفصلاً كلياً عن الشأن السياسي ومطبّاته، فإنه يشكّل سياسةً في حد ذاته، أو يؤسّس لسياسة واعية وحصيفة لم تستطع المراحل السابقة من العمل العربي المشترك أن تبلورها وتعتمدها. وحين تتوسّع اللقاءات لتصبح خماسية، كما في قمة العلمين وما سبقها، فإن المفاهيم التي يرتكز إليها التعاون والتنسيق تكتسب مزيداً من العمق والفاعلية، خصوصاً بوجود مصر ودولة الإمارات فيها جنباً إلى جنب. ولا شك أن وجود العراق في هذه اللقاءات أمر طبيعي، لما لديه من طاقات ومقوّمات اقتصادية لن تبقى معطّلة طويلاً مهما اشتدّت أزماته السياسية.
سمّيت تلك اللقاءات أيضاً «تحالف مواجهة التحدّيات»، وهي غير مرتبطة باندلاع حرب أوكرانيا واستشراء تداعياتها؛ إذ كانت بدأت قبلها حين اتضح أن معظم التحديات يكون أولاً داخلياً ثم يتأثّر بالخارج. وبمقدار ما أن جائحة «كورونا» ألحّت على تنشيط التعاون، بمقدار ما أن هذه اللقاءات العربية المحدودة مكّنت القادة المعنيين من اكتشاف أو إعادة اكتشاف مجالاتٍ للتعاون من شأنها أن تحدّ من هدر الطاقات والجهود، فالأولوية اليوم هي للخروج من أسر المفاهيم السابقة وأيديولوجياتها التي تسببت بصدأ آليات الحكم والسلطة لتغليب المنطق الاقتصادي التنموي المستقبلي الذي يعزز حيوية الدول والمجتمعات. ما يؤكّد جدوى المفاهيم الجديدة أنها باتت تعطي نتائج في اتجاهين: الأول، أنها تخفف من الإشكاليات والعقد في التفاعل مع دول العالم كافة على أساس المصالح الوطنية. والثاني، أنها تدفع دول الإقليم (تركيا وإيران وإسرائيل) والدول الكبرى (الولايات المتحدة والصين وروسيا) إلى التحرّك للتكيّف مع عالم عربي في صدد التجدّد.
في السياق نفسه، يمكن القول إنه عندما التأمت قمة جدة، منتصف يوليو الماضي، بحضور الرئيس الأميركي، بدا واضحاً أن السعودية في قلب هذا التوجّه العربي. ففي تلك القمة شكّل مجلس التعاون الخليجي (مع مصر والأردن والعراق) نواةً لتجمّع معبّر عن المشرق العربي. أما الأكثر وضوحاً فجاء في القواسم المشتركة التي رسمت الخطوط العريضة لنظام عربي مستعد للسلام والتعاون والتفاهم مع محيطه ولإقامة شراكات مع مختلف دول العالم بمنأى عن أي استقطابات.
نقلا عن الاتحاد