من القواعد الفقهية المنطقية التى يتفق فيها النص مع العقل الواضح، تلك القاعدة الفقهية التى تنص على أنه: «ما لا يُدرك كله لا يُترك جله»، أى أنك إذا امتنع عليك، أو صعب، إنجاز أمر ما بشكل كامل، وتعذر عليك تحقيقه بكل مواصفاته المثالية؛ فعليك ألا تترك المحاولة لإنجاز أكبر قدر مستطاع منه.
وهى قاعدة تساعد على الإنجاز ومواصلة الفعل والاستمرار فى النمو والتطور؛ خاصة أن الكمال أمر متعذر على الطبيعة البشرية. وإذا كان الفقهاء استخدموا هذه القاعدة فى الأحكام الشرعية للمساعدة على تحقيق أكبر قدر من الخير والصواب، فإن خبراء التنمية البشرية يستخدمونها فى عصرنا لمساعدة الأفراد على النجاح وتحقيق ذواتهم.
كما أن هذه القاعدة الرائعة تحكم طريقة العمل عند رواد الأعمال والمبتكرين فى مجالات كثيرة. وعلى سبيل المثال، انظر فى جهاز الهاتف المحمول الذى بين يديك، كيف وصل إلى هذه الدرجة من التقدم، مع أن بداياته كانت متعسرة وفقيرة القدرات جدا. وانا أتذكر المشهد الذى قدم فيه ستيف جوبز iPhone إلى العالم فى سان فرانسيسكو عام 2007، فهل كان الآيفون بهذا القدر من التطور الذى نشهده الآن؟ طبعا لا.. وأتذكر قبل ذلك فى التسعينيات من القرن الماضى حجم المعاناة مع windows، ثم أخذت فى التطور درجة بعد أخرى. ولك أن تتخيل لو أن صانع جهاز الكمبيوتر لم يصنعه بحجة انتظاره للوصول إلى المواصفات القياسية، فلا شك أنها كانت سوف تكون خسارة فادحة للبشرية، ولما كان هذا الجهاز قد تطور على النحو الذى وصل له اليوم.
أعود إلى موضوعنا وهو البحث عن الوحدة العربية، فإذا كان تعذر أمامنا إيجاد وحدة عربية كاملة، فيمكن أن نبدأ بجزء محدود أو مجال واحد، وليكن هو الاقتصاد للأسباب التى تحدثت عنها فى مقالات سابقة، وإذا كانت الوحدة العربية الاقتصادية الكاملة متعذرة، فلنبدأ ببعض جوانب من الاقتصاد فى المناطق الميسورة التى يسهل أن نتفق فيها، وعلى أساس توحيد أكبر قدر ممكن من الآليات والمعايير، ثم لاحقا نبنى عليها لتنمو المساحات المشتركة يوما بعد يوم.
وهنا أتذكر قاعدة فقهية أخرى تتمتع بمنطقية شديدة، تقول «الميسور لا يسقط بالمعسور». وهذه القاعدة، بالإضافة إلى القاعدة التى بدأنا الحديث بها، ترجمتان مباشرتان لبعض آيات القرآن المجيد: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]، وهو المعنى الذى يتفق معه الحديث النبوى الصحيح المعنى والسند، «فإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم…».
وأتصور أن الوحدة الاقتصادية العربية يمكن أن تبدأ أولا بالوحدة الاقتصادية الرقمية، على نحو محدود، ثم تتسع يوما بعد يوم. وفى سبيل تحقيق ذلك، استدعى بعض ما قلته فى الأعوام السابقة، وهى مقترحات تضمن بعضها فى «الرؤية العربية للاقتصاد الرقمى»، ولعل من أهمها الخطوات الآتية:
– العمل على تصميم خريطة استراتيجية للاستثمارات العربية فى الدول العربية.
– إعادة صياغة السياسات العربية الاقتصادية فى ظل المساحات المشتركة بينها، والاستفادة من تنوع الموارد فى كل منها.
– العمل على تقارب خطط التحول الرقمى والتطور التكنولوجى فى الدول العربية، والاستفادة المتبادلة من الخبرات الخاصة بكل دولة.
– العمل على تشكيل منصة إقليمية لتحليل البيانات واستخدامها فى الممارسات الرقمية المختلفة، بهدف الحد من الاعتماد على المنصات والتطبيقات الإلكترونية الأجنبية.
– تطوير المنظومة التشريعية العربية فى مجال الاقتصاد الرقمى، وإقامة حوار عربى حول توحيد التشريعات المتعلقة بهذا المجال لمواكبة التطورات الاقتصادية السريعة والتى تجاوزت التشريعات القائمة.
– تعزيز «الحوكمة الرقمية»للحفاظ على الأمن والشفافية، وإيجاد هيئة خاصة للقيام بهذه المهمة، فمن المهم أكثر من أى وقت مضى الشروع فى مسار جديد للحوكمة الرقمية والبيانات.
– العمل على عقد اتفاقيات إقليمية تنظم قواعد استخدام البيانات بما يتسق مع التشريعات الوطنية العربية، ووضع اللوائح لتحديد الحقوق والواجبات بين منتجى التكنولوجيا الرقمية ومستهلكيها.
– التركيز فى استراتيجياتنا الوطنية على خطط توطين التقنيات المتقدمة، ضمانا لتحقيق المكانة اللائقة لمجتمعاتنا العربية فى الأسواق العالمية، وبما يعزز من شروط التبادل التجارى لصالح مجتمعاتنا، وبما يضمن تحقيق حصة مقبولة من المنتجات المعرفية فى الأسواق العالمية، وذلك من خلال استهداف خلق وتعديل ونقل واستخدام التقنيات المتقدمة والمنتجات المعرفية المختلفة والسعى الدائم لتبنى استراتيجيات داعمة للشركات الناشئة فى مجال التكنولوجيا المتقدمة.
– وفى مجال الأمن السيبرانى المعلوماتى، يجب أن تعمل الحكومات على إدارة أمن المعلومات، وحماية أنظمة التشغيل المختلفة، توفير سبل الأمن السيبرانى لأنظمة العمل بها، وصناعة استراتيجيات وتشريعات تستهدف توفير الحماية لأنظمة المعلومات الخاصة، واستخدام البرامج الأمنية الدقيقة لاكتشاف ومواجهة الثغرات.
وأبرز النماذج التى يمكن أن نتعلم منها: وكالة الاتحاد الأوروبى للأمن السيبرانى، ووحدة الأمن السيبرانى للاستجابة السريعة، والتى أطلقها الاتحاد الأوروبى فى عام 2021 بهدف توفير أنظمة دفاع إلكترونى مشترك لدول الاتحاد الأوروبى، علاوة على الأنظمة المتقدمة لتقويم التهديدات الإلكترونية المحتملة.
– ضرورة تطوير البلدان العربية للبنية التحتية التكنولوجية.
– إعادة تشكيل العمليات التنظيمية والمنتجات والخدمات باستخدام التكنولوجيا الرقمية الموحدة.
نقلا عن الأهرام