فى تصورى أن أى وحدة عربية ممكنة فى المستقبل، لابد أن تبدأ بالوحدة الاقتصادية وفق نمط جديد يتجاوز الأنماط الوحدوية التقليدية التى تجاوزها التاريخ، وأية محاولة لاستعادة الأنماط القديمة سوف تبوء بالفشل.
فلا نكن أغبياء ونستعيد مرة أخرى ما ثبت فشله.. فإذا كنا نصل فى كل مرة إلى نتيجة خاطئة، فمن عمى البصيرة أن نعيد سلوك الطريق نفسه الذى يؤدى فى كل مرة إلى النتيجة نفسها.
إن التاريخ يكرر نفسه مع الأغبياء فقط؛ لأنهم لا يتعلمون من التاريخ! والنمط التكرارى للتاريخ الذى يعتمد على العود والدوران والاستعادة، لا يحدث إلا فى الأمم المتخلفة العاجزة. أما الشعوب الذكية المتبصرة فإنها لا تعيد إنتاج التاريخ، بل تصنع لنفسها تاريخا جديدا، ولذلك تجد التاريخ يسير معها فى خط تصاعدى تقدمى وليس فى نمط تكرارى دائرى.
إذا أردنا أن نكون كتلة تاريخية تسير نحو الأمام، فعلينا أن نكف عن كل المحاولات البائسة لاستعادة الماضى بحذافيره، وعلينا أن نحلل حركة التاريخ تحليلا علميا لنعرف العوامل الطبيعية المحركة له. وربما نجد أن أكثر تلك العوامل تأثيرا هو الاقتصاد.. حيث تكشف نقاط التحول عبر التاريخ من مرحلة إلى مرحلة أخرى عن أن الاقتصاد يعد من أكثر العوامل تأثيرا فى حركة التاريخ، سواء كعنصر ظاهر أو عنصر مصاحب أو عنصر متقنع بالأيديولوجية.
ولا يجب أن نكابر فى هذا، فشواهد التاريخ كثيرة، وعلى سبيل المثال فإن أوروبا عندما خرجت من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة كان السبق للاقتصاد فى تحريك أوروبا نحو مرحلة جديدة.. فالرأسمالية نشأت، ونشأت معها الليبرالية، فنشأ العالم الغربى الحديث القوى والمتقدم.
ومن وجهة نظرى، خلافا للبعض، أن الرأسمالية هى التى صنعت الليبرالية وصنعت العالم الغربى. وكما أن للرأسمالية مميزاتها، فإن لها أيضا مساوئ وعيوبا، وقد طرحت الرأسمالية نقيضها الذى رد عليها، وكان هذا الرد على مساوئ الرأسمالية فى هذا الجانب هو الاشتراكية والشيوعية. وعندما نشأت الاشتراكية والشيوعية تكونت الكتلة الشرقية بكل قوتها كأحد قطبين فى العصر الحديث. ثم واجهت المنظومتان الرأسمالية والاشتراكية تحديات ضخمة، جعلت كل منظومة منهما تعيد تجديد نفسها . وعلى الرغم من اختلاف المنظومتين، فإنك تجد فى كل مرة أن الاقتصاد هو أحد أهم العوامل التى تحرك التاريخ، وتشكل العالم. والاقتصاد أيضا من بين العناصر التى تحدد البنى الثقافية والذهنية والعلمية والفكرية والفنية، وفى كثير من الأحيان البنى الفكرية الإنسانية ذات الطابع الدينى أيضًا.
من يصنع التاريخ؟
هل هو الدين أم الفكر أم الاقتصاد أم ماذا؟
فى الحقيقة.. نجد أنه الدين فى بعض الأوقات، وفى أحيان أخرى يكون الفكر الفلسفى الذى يقدمه المصلحون، وفى أحيان ثالثة تجد الصراع الطبقى هو الحافز للدخول فى مرحلة تاريخية جديدة، وفى أحيان رابعة تجد أنه الاقتصاد بشكل واضح. وربما هذه العوامل مجتمعة بنسب مختلفة تساهم معا فى صناعة التاريخ. وربما تجد فى بعض مراحل التاريخ عوامل أخرى.. لكنك تجد فى كل الأحوال أن الاقتصاد هو عامل مشترك أصيل فى حركة التاريخ، ومصاحب أو سابق على العوامل الأخرى، سواء بشكل ظاهر أو بشكل ضمني؛ حيث تتخفى وتتقنع كثير من الأيديولوجيات بقيم مثالية، لكنها تضمر فى باطنها الغايات الاقتصادية.
وتأسيسا على هذا، لابد من أن نفكر فى نمط جديد من الوحدة الاقتصادية العربية، إذا أردنا أن ندخل عصرا جديدا للقوة العربية.
ويجب أن نقتنص اليوم تلك الفرصة التاريخية والعالم يعيد ترتيب أوراقه من جديد؛ حيث تبدو فى الأفق ملامح عالم دولى جديد، بعد الحرب الروسية الأوكرانية الغربية، والمناوشات البادية بين الولايات المتحدة والصين والتى أخذت منعطفا خطيرا حول تايوان.
إنها فرصة تاريخية لكى يسارع العرب بتنظيم أنفسهم فى أشكال جديدة من الوحدة، لصناعة مركز إقليمى جديد فى الاقتصاديات العالمية، يمكنه الاستقلال بنفسه فى منظومة اقتصادية قوية تستطيع أن تشكل نقطة ارتكاز إقليمى قادر على الدفاع عن مصالحه فى عالم متعدد الأقطاب.
وفى ظنى أن النظام العالمى الجديد سوف يتلاشى فيه القطب الواحد، ويصبح عالما متعدد الأقطاب.. فلا عودة لنظام القطبين القديم كبديل لنظام القطب الواحد، بل عالمنا القادم سوف يكون متعدد الأقطاب.. فهل سوف نكتفى بالاستجارة والاستنصار بأحد الأقطاب الكبيرة، أم سوف نكون نحن قطبا كبيرا يقف فى ندية مع سائر الأقطاب؟
لا سيما بعد قمة جدة التى ظهرت فيها مجموعة (الخليج + 3)، ككتلة واحدة متسقة تضم دول الخليج ومصر والأردن والعراق.. وهى فكرة جيدة أن تكون هناك وحدة عربية مصغرة بين دول متجانسة بدون الأصوات النشاز، يعقبها التوسع التدريجى المبنى على شروط جادة لضم عناصر جديدة تستطيع أن تقوم بالتزاماتها وتعمل مع سائر الأطراف بعقلانية وإخلاص، على غرار الاتحاد الأوربى مع مراعاة الخصوصية العربية وتلاشى عيوب نظام الاتحاد الأوربى.. فلا نريد أن نستعير تجربته كما هى، بل نريد أن نستفيد منها فى ضوء المتغيرات الدولية والتاريخية مع مراعاة الفروق النوعية الحضارية والتاريخية والاقتصادية.
نقلا عن الأهرام