تغير تكتيكي:
نتائج الجولة الرابعة من الحوار الاستراتيجي الأمريكي-العراقي

تغير تكتيكي:

نتائج الجولة الرابعة من الحوار الاستراتيجي الأمريكي-العراقي



على عكس ما كان متوقعًا بشأن مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وسط توقعات باتخاذ قرار أمريكي بالانسحاب من هناك على غرار ما جرى في أفغانستان؛ أفضت الجولة الرابعة من الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين، حول العناوين والمحاور ذاتها التي تناولتها جولات الحوار السابقة. فبحسب البيانات والتصريحات الرسمية التي تداولها الطرفان في واشنطن التي استضافت الجولة الأخيرة، في 23 يوليو الجاري، فقد أضيف إلى جانب عنوان “الشراكة الاستراتيجية” عنوان “تحقيق الاستقرار”، الذي يتضمن تعهد واشنطن باحترام سيادة دولة العراق وقوانينها، وتوفير الموارد التي تحتاجها للحفاظ على وحدة أراضيها، في مقابل تعهد الحكومة العراقية بحماية الجنود الأمريكيين الذين ستتبدل مهامهم، على مدى الأشهر الخمسة المقبلة، من المهام القتالية إلى تقديم المشورة والتدريب لقوات الأمن العراقية، وإن لم يفصح البيان عن حجم القوات الأمريكية المتبقية.

إعادة تموضع

تُشير مخرجات اللقاء العراقي-الأمريكي على هذا النحو إلى دلالة رئيسية تتعلق بتغير تكتيكي في طبيعة التعاون العسكري الأمريكي-العراقي المستدام، وهو ما أشار إليه البيان الأمريكي تحديدًا حول تغير مهمة القوات الأمريكية في العراق بحلول نهاية العام، من المهام القتالية إلى مهمتي التدريب والاستشارات. لكن من الناحية العملية، وفقًا لتقديرات سياسية عراقية وأمريكية، من الصعوبة بمكان الاقتصار على هذه الجوانب، من أكثر من زاوية، فقبل نحو 6 أشهر وفي غمار تأزم المشهد الأمني في العراق كانت الحكومة العراقية قد أشارت إلى انتهاء المهام القتالية للقوات الأمريكية المتبقية في العراق وقوامها 2500 عنصر، لكن الدلائل أشارت لاحقًا إلى صعوبة إنهاء هذه المهام، مع حاجة القوات العراقية إلى إسناد جوي في العمليات التي تقوم بها في بعض الأحيان ضد أوكار تنظيم “داعش”.

ومع استمرار هذا الدور، كشفت وسائل الإعلام الأمريكية، لا سيما صحيفة “وول ستريت جورنال”، عن أنه بالفعل سيتم نقل قوة العمليات الأمريكية إلى دولة مجاورة لم تحددها، على أن يتم الاستعانة بها بالاتفاق في كل مرة وفق آلية تنسيق مشتركة عراقية–أمريكية. وفي السياق ذاته، فإن إقرار بغداد بضرورة الحاجة إلى استمرار التنسيق المشترك على المستوى الاستخباراتي يفتح المجال أمام استمرار التعاون العسكري بغض النظر عن مكان تموضع القوات الأمريكية، وهو ما سيتوقف على القدرة على الاستجابة السريعة للانتقال إلى الهدف.

توجهات متناقضة

بدورها، لم تخرج ردود الفعل الداخلية عن السياق المتوقع. فالقوى المليشياوية المناهضة للوجود الأمريكي في العراق اعتبرت أن ملخص الحوار الاستراتيجي كاشف عن عملية تبرير لاستمرار الدور الأمريكي في العراق، وهو ما صرح به “قيس الخزعلي” زعيم مليشيا “عصائب أهل الحق” تعقيبًا على المؤتمر الصحفي المشترك بين وزيري الخارجية العراقي “فؤاد حسين” والأمريكي “أنتوني بلينكن”، والذي أكد فيه الأول حاجة العراق إلى وجود القوات الأمريكية والتنسيق معها، كما توعد “الخزعلي” بأن “عمليات المقاومة مستمرة وستستمر حتى خروج كل القوات الأمريكية من كل الأراضي العراقية” على حد قوله. في المقابل، أصدرت عشائر عراقية بيانًا مضادًا رفضت فيه اعتزام واشنطن سحب قواتها من العراق، معتبرة أن هذا الأمر “سيُدخِل العراق في فوضى وخطر كبير ونفق مظلم، خاصةً وأن منطق اللا دولة والمليشيات هو الحاكم الفعلي للعراق الآن، وأنه لا سلطة للحكومة على المليشيات التابعة لإيران كونها هي الأقوى”.

دوافع عديدة

على الأرجح، كان هناك ميل عراقي، من جانب الحكومة، لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي، في خضم المواجهات بينها وبين المليشيات الولائية لطهران في الفترة السابقة، والتهديدات العلنية للحكومة والقوات الأمريكية، إضافة إلى ما عكسته مواقف طهران السياسية الضاغطة على الحكومة لإنهاء هذا الوجود، وفي ضوء الزيارات التي قام بها قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري “إسماعيل قاآني” إلى العراق سرًا، والتي انطوت على رسائل صريحة بأن طهران بصدد إعادة هيكلة قوتها الضاربة في العراق ضد الوجود الأمريكي. لكن المشهد الأمني الذي سبق الزيارة والمتمثل في التفجيرات التي شهدتها سوق مدينة الصدر شرقي بغداد ربما دفع “الكاظمي” مرة أخرى إلى إعادة التفكير في أهمية استمرار التنسيق المشترك في هذا الجانب، حيث إن سرعة القبض على منفذي العملية والإشارة إلى وجود “شبكة إرهابية” دون الكشف عن هويتها، وأن هناك رغبة في إنفاذ العدالة وليس الانتقام، يرجح احتمال أن منفذي العملية الانتحارية من الداخل، حتى رغم أن العملية قد نفذت بالطريقة نفسها التي تستخدمها التنظيمات الإرهابية.

وكما سبقت الإشارة، فإن أغلب مواقف القوى الداخلية، لا سيما الموالية لطهران، تؤكد على ضرورة أن تقوم القوات الأمريكية بالانسحاب نهائيًا من العراق على غرار ما حدث في أفغانستان، إلا أن السلطة الانتقالية العراقية اتجهت، على ما يبدو، إلى تجنب هذا السيناريو من خلال القراءة الاستباقية لما هو متوقع للمشهد الأفغاني من حيث ترجيح مزيد من السيطرة الإيرانية على العراق لملء الفراغ الأمريكي هناك.

على الجانب الآخر، فإن واشنطن ترى أن الشراكة مع بغداد “أوسع من ملف مكافحة داعش”، كما أنها باتت تدرك أن طهران لن تستجيب لدعواتها بشأن تغيير سياساتها الإقليمية، في ضوء تحركاتها في العراق وسوريا، وفي ظلّ المهددات على الساحتين العراقية والسورية اللتين تجمعها قواسم مشتركة من المنظور الأمريكي. ومن هنا، فإنها تعمل على إعادة هيكلة الوجود العسكري، وليس الانسحاب الذي ستكون له تداعياته على هاتين الساحتين من المؤكد أنها لن تكون في صالحها.

تداعيات صعبة

لم تستوعب القوى المناهضة للوجود الأمريكي في العراق تفاصيل تغير العناوين السياسية لمهمة القوات الأمريكية في العراق، وفق ما أكد عليه الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في لقائه مع رئيس الوزراء العراقي “مصطفى الكاظمي” في 26 يوليو الجاري. وتشير العديد من التقديرات الأمريكية والعراقية إلى أن السيناريو القادم أصعب على مستوى التصعيد متعدد الأطراف في العراق، على الرغم من الثقة التي أبداها “الكاظمي” بأنه ستكون لديه القدرة على حماية القوات الأمريكية في العراق، إذ إن التجربة العملية والميدانية أثبتت صعوبة ذلك. ومع قرب انتهاء المرحلة الانتقالية في العراق لا يعتقد أن الطريق إلى إجراء الانتخابات العراقية سيكون ممهدًا على المستويين الأمني والسياسي، حيث لم يتوقف الأمر على تفجير سوق الصدر قبيل انعقاد الحوار الاستراتيجي الرابع، فخلال وجود “الكاظمي” في واشنطن وقع انفجار مماثل طال أحد مخازن فرقة “الإمام علي” التابعة لـ”الحشد الشعبي”، وبالتالي فإن إشعال التوتر على الساحة العراقية لن يقتصر على الهجمات التي ستطال القوات الأمريكية وفق أي سياق لوجودها أو في إطار مقاربة العلاقات الرسمية العراقية-الأمريكية، وإنما أيضًا قد يمتد إلى عملية تصفية حسابات داخلية متعددة الأطراف، منها بين الحكومة والمليشيات، والمليشيات الولائية وفصائل العتبات المقابلة لها.

في النهاية، يمكن القول إن الحسابات الرسمية العراقية-الأمريكية لا تزال في الدائرة الاستراتيجية نفسها دون تغير في المضمون، حتى وإن كان سيحدث تغير نسبي من الناحية الشكلية، ولكن ما ينظر له هو التداعيات المرتقبة التي تُبنى على زيادة في مستوى التوتر والتصعيد في أعقاب كل جولة استراتيجية تكشف أن الطرفين العراقي والأمريكي لا يمكنهما تغيير معادلة الشراكة، كما سيكون من الصعب بالتبعية تغيير معادلة الاشتباك مع إيران ووكلائها في العراق.