سوف يتوقف الباحثون كثيرًا أمام حربى أوكرانيا وغزة، وكيف كشفتا عن عالم يبدو كالغابة، ضاعت فيه مصداقية التحالفات والمبادئ، وضاع فيه حق مَن لا يملك القوة، وانهارت فكرة عالمية القيم الإنسانية لمصلحة ازدواجية المعايير.
ونبدأ بحرب أوكرانيا، التى تعطى درسًا قويًّا فى أن الدولة يجب أن تنبع سياستها من إرادتها ومصالحها الخاصة بالأساس، ودون الارتكان على أى تحالفات خارجية، أو وعود بالمساندة قد يتم نقضها أو النكوص عنها، أو التملل من الالتزام الطويل بها.
فى هذا الإطار، وفى الذكرى السنوية الثانية لحرب أوكرانيا، صدرت مجلة «الجارديان الأسبوعية» بغلاف يحمل رسمًا لطريق موحش تظهر علامات الدمار على جانبيه، وعنوان «طريق أوكرانيا الوحيدة».
دلالة غلاف «الجارديان» تشير إلى حقيقة تغير موقف التحالف الغربى من أوكرانيا، فعندما بدأت الحرب قدم الغرب الوعود بالمساندة بالمال والسلاح وعضوية الاتحاد الأوروبى. واطمأنت أوكرانيا لذلك، وتشجعت على الدخول فى المواجهة مع روسيا. اليوم، يبدو أن الوعود الغربية تتبخر تدريجيًّا..
ويبدو أن أوكرانيا أصبحت تسير فى الطريق بمفردها كما تشير «الجارديان»، التى تضيف بمقال فى المجلة أنه «على طول خط المواجهة، تقف أوكرانيا فى موقف دفاعى، حيث تعانى نقصًا فى الذخيرة والجنود.. ومع تزايد الخسائر فى الأرواح، واستنفاد صفوف الجيش وإمدادات المدفعية، وتوقف المساعدات المالية الأمريكية- ومع الاحتمال المحتمل لرئاسة دونالد ترامب التى تلوح فى الأفق- يستقبل الأوكرانيون الذكرى السنوية الثانية بالخوف بشأن ما قد يخبئه المستقبل.. والخلفية الدولية تجعل من الصعب الثقة بشأن الآفاق طويلة المدى لتحرير الأراضى الأوكرانية». قائد الجيش الأوكرانى، الجنرال فاليرى زالوزنى، اعترف فى مقابلة مع مجلة الإيكونوميست فى نوفمبر ٢٠٢٣، بأن الحرب مع روسيا وصلت إلى طريق مسدود.
ويشير أحد الخبراء الأوكران إلى أن المفاوضات مع روسيا كانت موضوعًا محظورًا منذ فترة طويلة، ولكن فى ظل المعطيات الجديدة «إذا تمكنّا من البقاء على قيد الحياة فى العام المقبل، فمن المحتمل أن نضطر إلى التفاوض على نوع ما من وقف إطلاق النار».
باختصار، سقطت الوعود والتحالفات الغربية، ولم يعد أحد يكرر مقولة إن أوكرانيا هى حائط الصد عن أوروبا، وأعطت الدول الأوروبية الأولوية للتعامل مع أزماتها الاقتصادية وليس مساندة أوكرانيا. وفى الولايات المتحدة حدثت تحولات فى مواقف الرأى العام الأمريكى، حيث تآكل الدعم الشعبى لأوكرانيا، وارتفعت نسبة الأمريكيين الذين يقولون إن بلادهم تساعد أوكرانيا «أكثر من اللازم»، وتصاعدت الاتهامات للبيت الأبيض بأنه فشل فى تحديد الأهداف وتوقعات التكلفة المحيطة بحرب أوكرانيا المستمرة ضد روسيا. ونتيجة لذلك تجمدت المساعدات الأمريكية لأوكرانيا فى الكونجرس.
باختصار، سقطت مصداقية التحالف الغربى المساند لأوكرانيا، ويبدو أن أوكرانيا ستسير وحيدة فى العام الثالث للحرب.
أحد دروس حرب غزة يرتبط أيضًا بمصداقية الغرب، ولكن فيما يتعلق بالقيم والمبادئ، التى كثيرًا ما تم الترويج لها على أنها ليست قيمًا غربية ولكنها قيم عالمية ترتبط بالإنسان أيًّا كان لونه أو دينه أو جنسيته. ولكن سقطت هذه القيم فى اختبار غزة.
صحيح أن العديد من مواطنى الدول الغربية قد استيقظ ضميره، وتظاهر ضد الإبادة التى يتعرض لها الشعب الفلسطينى، ولكن لا تزال بعض الحكومات الغربية تعارض وقف إطلاق النار، وتتعامل مع الدم الفلسطينى بشكل قد يفسره البعض بأنه نتاج لعنصرية ثقافية.
«فجوة مصداقية» القيم الغربية التى ظهرت فى حرب غزة تركت جرحًا غائرًا فى قلوب وعقول النخب العربية، التى تفاعلت بإيجابية مع الحضارة الغربية، وسوف تخلق مساحة تباعد مع الحضارة العربية والإسلامية، بل حضارات دول الجنوب، وستسهم فى إحياء مقولات «صمويل هانتنجتون» عن صراع الحضارات والثقافات.
أما الدرس الأكبر من حرب غزة فيتعلق ببناء القوة العسكرية، فتصرفات إسرائيل فى غزة تؤكد أن شريعة الغاب هى التى تحكم منطقة الشرق الأوسط، وأن الفوضى هى سيدة الموقف، وأن إسرائيل تعتقد أن قوتها العسكرية وليس أى اتفاقيات للسلام هى التى تحدد مكانتها فى المنطقة، وأن حكومتها اليمينية الحالية تعطى أولوية للتوسع والاستيطان على حساب الاندماج فى منطقة الشرق الأوسط، ولا ترى أن الظروف الحالية تهيئ «فرصة» للسلام الدائم مع الدول العربية فى إطار صفقة كبرى تقوم على حل الدولتين، ولا تهتم بذلك، بل تعتقد أن أى سلام يقوم على حل الدولتين هو «مكافأة» للإرهاب.
فى ظل هذه الأجواء لابد من الاستمرار فى بناء القوة العسكرية المصرية، وأن يظل «السلاح صاحى» دائمًا، ليس بالضرورة للهجوم، ولكن للردع أيضًا، وتأمين المصالح الوطنية المصرية، فى منطقة ستظل غير مستقرة لفترة طويلة، وستظل القوة العسكرية هى اللغة التى يفهمها الخصوم.
نقلا عن المصري اليوم