من القاهرة إلى أصيلة وبالعكس – الحائط العربي
من القاهرة إلى أصيلة وبالعكس

من القاهرة إلى أصيلة وبالعكس



لا أدرى لماذا كلما أخذتنى الحياة إلى رحلة خارج مصر أن يأتى إلى ذهنى تلك القطعة من الأدب للأستاذ محمود تيمور التى كانت مقررة علينا فى دروس المطالعة، لا أذكر متى كانت وفى أى مرحلة من مراحل الدراسة. أبصرت النظر إلى الطاق ورجع بى الخاطر إلى المطار، إلى مصر… ما أنت أيها الوطن وماذا فيك من سر يهيج كوامن الشجن، وهل الدنيا على رحبها واتساع بقاعها الى مثلك بر وبحر؟! ولا أدرى عما إذا كانت هذه القطعة من الأدب، أو أخريات مثلها، تطرح على تلاميذ هذه الأيام؛ أم أن مثل ذلك بات ينتمى إلى عصور قديمة. حينما بدأت الرحلة كانت مصر بعد مؤتمر الحوار الاقتصادى قد اندرجت فى حوارات طويلة أخرى تبدأ بالعالم ولا تنتهى إلا بتنمية آخر قرية مصرية. همومنا كثيرة، ولا يضع الهموم فى حجمها إلا العلم، والعلم لا يأتى إلا من معرفة أحد مصادر الآخر الذى يخوض معنا نفس التجربة. والآن وبعد ما يصل إلى خمسة عشر عاما استأنفت الذهاب إلى المغرب، وإلى منتدى أصيلة فى تلك القرية التى أخذ المنتدى اسمها حيث تعقد ندوة «أى نظام عالمى بعد حرب أوكرانيا؟» حيث يوجد كما هى العادة نخبة كبيرة تتحاور على مدى يومين فى قضية مهمة. تغيرت أصيلة كثيرا عما كانت عليه من قرية صغيرة ذات أبنية عتيقة على ساحل البحر المتوسط، وبعيدة عن الدار البيضاء بحوالى ثلاث ساعات من السفر ونصف ساعة من طنجة؛ حتى صارت مدينة سياحية قلبها قلعة تحيط بالقرية القديمة بشوارع نظيفة ملتوية تبدو كما لو كانت قد خرجت من جوف فيلم عالمى. على جوانب كل الطرق توجد محال صغيرة تعبر عن ثقافة سياحية فى المنسوجات والصناعات الجلدية وفيها من الإتقان فى التعبير عن ثقافة خاصة قدر كبير.

لم تكن أصيلة وحدها هى التى تغيرت من قرية إلى مدينة أنيقة، وإنما بشكل ما بدا الطريق السريع مماثلا لكثير من ثورة الطرق التى تعيشها مصر هذه الأيام. من بعيد سألت عن ذلك القطار السريع، فعلمت أنه يقطع الطريق ما بين الدار البيضاء وطنجة فى ساعتين، وبالطبع تذكرت قطارنا تحت الإنشاء باعتباره جزءا مهما من التغيير. بدت روح الإصلاح شاملة وواسعة حتى حققت سبقا على مصر، وفى تقرير عن بعض الأرقام الدولية الخاصة بالملكية الفكرية السارية فى الدول الصناعية بلغ فى المغرب ١٠١٩٢ وفى مصر ٥٦٥٥ براءة وابتكارا. قطعت المغرب شوطا واسعا فى توطين الصناعة، والتصدير للمنتجات الصناعية ليس فقط فى المنسوجات والمصنوعات الجلدية وإنما فى السيارات وصناعات أخرى. السير فى طرقات المدينة يشير إلى نقلة كيفية فى مجال السياحة التى تظهر فى التعامل مع السائحين من ناحية، وإظهار العلامة التجارية للدولة فى أنماط لبسها القومى، وأشكال طعامها المختلفة. بشكل أو آخر تعيش المغرب فى مرحلة من الاستقرار السياسى والتخلص من الجماعة الإخوانية لكى تتوازن الأمور الدينية والدنيوية فى تناسق عجيب.

حينما دخلنا إلى الفندق التابع لمؤسسة منتدى أصيلة كان فى الاستقبال أحد الشخصيات النبيلة والتاريخية للمغرب ممثلة فى السفير والوزير محمد بن عيسى الذى مثله مثل كثيرين فى العالم العربى ظلت له دوما روابط خاصة وعاطفية بمصر الخمسينيات والستينيات لم يشبها تغيير حتى عصرنا الحالى، اللهم إلا أن الرومانسية القديمة اختلطت بها الآن واقعية ناضجة وحكيمة تصاحبها ابتسامة ساحرة طوال الوقت. تعرفت على الرجل قبل عقود عندما قدمنى له وهو السفير فى واشنطن الأستاذ لطفى الخولى رحمه الله، ومن بعدها أصبحت مشاركا فى منتدى أصيلة الذى باتت فكرته رائدة فى فقه الحوار المستمر ليس فقط بين العرب وإنما بينهم ودول العالم أيضا. فى مناقشة موضوع الحوار هذه المرة كانت هناك بالإضافة إلى وزراء خارجية عرب سابقين ومفكرين وكتاب، أمثالهم من البرتغال وإسبانيا وشيلى وغيرهم. الفكرة ذاتها ظلت ملحة للتطبيق فى مصر، ربما فى كل محافظة أن يجرى اختيار قرية أو مكان متميز وفيه تطلق شرارة الإصلاح والتقدم والمعرفة بالعالم والحديث عما يدفعنا إلى الأمام وكيف نتجنب ما يأخذنا إلى الخلف.

عندما غادرت القاهرة كانت القمة العربية المنعقدة فى الجزائر واستمعت قبل الرحيل إلى خطاب الرئيس التونسى قيس سعيد الذى استعاد الكثير من المفردات الرومانسية للقومية العربية. كان شعار القمة هو لم الشمل وبات السؤال المطروح ما هو ذلك الشمل الذى ينبغى لمه؟ والتقدير هنا على ضوء الزيارة إلى أصيلة والمناقشات التى دارت فيها أن هناك الكثير من الضغوط القادمة على الدول العربية من النظام الدولى، حيث الحرب الأوكرانية، ومن النظام الكونى الناتج من الاحتباس الحرارى، ولا يعلم أحد عما إذا كانت الجائحة قد ذهبت أم أنها فى سبيلها إلى الرجوع. ولا يوجد أمام الدول العربية إلا المواجهة معتمدة فى ذلك على نفسها من خلال تعاون وثيق بين الدول التى تسير فى مسار الإصلاح الشامل. كنت أتمنى دائما ليس فقط أن نبحث عن حل النزاعات العربية سواء التى تحدث فى داخل الدول وتأخذ شكل الحروب الأهلية كما يحدث فى اليمن وسوريا وباتت الأقدار تغلى بشأنها فى دول أخري؛ إلى شكل حوارات التجارب والمعرفة من الدول التى تبنت الإصلاح الكبير كما هو حادث فى مصر والمغرب والسعودية والإمارات والأردن والبحرين وعمان والكويت. فى مصر بلد المقر فى الجامعة العربية ربما آن الأوان لكى يكون فيها ساحة دائمة للحوار.

نقلا عن الأهرام