عنوان الكتاب هو «سيد اللعبة أو Master of the Game» والعنوان الفرعى هو «هنرى كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط»؛ والمؤلف هو «مارتن إنديك» المهاجر اليهودى الأسترالى إلى الولايات المتحدة، والقائد لجماعة الضغط اليهودية فى واشنطن «آيباك»، ثم الدبلوماسى الذى بات سفيرا للولايات المتحدة فى إسرائيل خلال إدارة بيل كلينتون، ومساعد وزير الخارجية فى عهده، ثم مؤسس مركز سابان لدراسات الشرق الأوسط فى مؤسسة بروكينجز، وممثل إدارة أوباما فى دبلوماسية الشرق الأوسط.
والكتاب بكل هذا الشمول بين المؤلف والموضوع يستحق القراءة ليس فقط لما ورد فيه من معلومات، وربما الأهم تأملات وتفاسير، وإنما أيضا لما هو غائب عنه؛ والأهم كيف يفيدنا الآن. الكتاب بالضرورة يدور حول الولايات المتحدة وسياستها فى الشرق الأوسط، وبالتحديد إزاء الصراع العربى الإسرائيلى، من خلال شخصية تقوم بدور البطل أو «السيد» الذى أدار التعامل مع الصراع بمهارة كما لو كان «لعبة» فيها الكثير من الذكاء والحنكة.
ولكن الشخصية ليست عادية، فمستشار الأمن القومى ثم أول يهودى يكون وزيرا للخارجية، والأكاديمى الشهير الذى دار حياته كلها فى إطار ما هو معروف بالمدرسة «الواقعية» فى العلاقات الدولية. الشخصية هنا لها مؤثراتها الذاتية من أول الهرب من ألمانيا التى أتت فيها «المحرقة» على أعداد من عائلته وأصدقائه؛ ثم بعد ذلك علاقته بالعالم الجديد وما يأتى عليه من تساؤلات الولاء حتى من داخل الإدارة التى عمل فيها، والتى كان الرئيس ريتشارد نيكسون يعتقد فيها أن الرجل متحيز لإسرائيل. ولكن «إنديك» الذى يمثل جيلا آخر من اليهود المهاجرين الذين أتوا إلى أمريكا ليس هربا من محرقة، وإنما ابتغاء لفرص أكبر وفى ظل عالم آخر.
.. ومن الدبلوماسية والعمل السياسى الذى جاء بعد أن دارت عجلة الصراع العربى الإسرائيلى لكى تشمل أيضا السلام العربى الإسرائيلى، الذى هو بالتأكيد ليس شاملا، ولكنه بالتأكيد انتقل إلى نقطة تحول هامة من صراع «الوجود» إلى صراع التعايش مع الآخر. كانت اللحظة الفاصلة بين العالمين هى حرب أكتوبر ١٩٧٣ التى كان نجمها الدبلوماسى هو كيسنجر.
الغريب أن كتاب إنديك ليس دفاعا عن كيسنجر فيما أجراه من دبلوماسية كانت جزءا أساسيا من عالم الحرب الباردة، ولا أكاديميا فى مدى ومعنى تطبيقه لنظريات توازن القوى والردع؛ وإنما يبدو الغرض الأساسى من الكتاب هو الدفاع عن الرجل فى مواجهة المجتمع اليهودى فى الولايات المتحدة الذى يرى أن كيسنجر حرم إسرائيل من السلاح، وأنه ضغط عليها للانسحاب من أرض تستحقها، وتوقيع اتفاقيات لا تريد التوقيع عليها، وفوق ذلك فإنه علق سلبا على يهود وردت أسماؤهم فى تسجيلات فضيحة ووترجيت.
الكتاب الذى اعتمد على السجلات الأمريكية التى وضع فيها كيسنجر كل وثائقه، وعلى ١٢ مقابلة جرت بينما كيسنجر يقترب من عامه ٩٨. وخلاصة الكتاب هى أن كيسنجر لم يكن مهتما بتحقيق السلام فى الشرق الأوسط، وإنما الهدف كان إقامة نظام شرق أوسطى مستقر تهيمن عليه الولايات المتحدة، وقائم على قدرة إسرائيل على ردع الدول العربية مع إعطائها الوقت الكافى لكى تتغلب على هشاشة تكوينها.
مثل كل ذلك ليس جديدا على الإطلاق، فالدبلوماسيون والمثقفون العرب يعرفون مقولات كيسنجر عن أن «عملية السلام» لم تكن تعنى أكثر من ذلك، مجرد عملية. ومنهم من كان على وعى كامل بأن كيسنجر كان فى ذلك مخالفا لموقف الرئيس نيكسون الذى أعطى له تعليمات واضحة بأن يفرض «التسوية» على الجانبين العربى والإسرائيلى. وأن كيسنجر خالف عمدا رئيس الدولة مستغلا فى ذلك دخول نيكسون فى المرحلة المظلمة من فضيحة ووترجيت التى كانت تضع استقالة الرئيس فى نهاية النفق.
هذا الخلاف أو التناقض لم يلق لا دهشة ولا تحديا سياسيا داخل الدوائر الفكرية الأمريكية لما فيه من علاقة بين الدبلوماسية والسياسة، وباتت فاضحة عندما أعطى وزير الخارجية الأمريكى الضوء الأخضر لإسرائيل لكى تنقض وقف إطلاق النار، وهو الأمر الذى وضع العالم على شفا أزمة نووية عاتية.
ولكن ذلك لم يكن الغائب الوحيد، فالبطل السيد أو الملك فى اللعبة، هو وحده الذى كان يدير كل شىء، لا كان هناك فشل كبير فى التنبؤ وتوازن النظام عندما شنت مصر وسوريا حرب أكتوبر. الكتاب كان فيه كيسنجر والولايات المتحدة وإنديك شاهدا على الفترة التى تلت كيسنجر، بما كان فيها من انتهاء الحرب الباردة، والتفاعل العربى الإسرائيلى سواء كان بالسلاح أو الانتفاضة أو بالحركة الدبلوماسية والسياسية. لم يكن فى قدرة كيسنجر التنبؤ لا بحرب أكتوبر ولا بزيارة الرئيس السادات للقدس. ولا أنه كان فى مصر دولة تستعيد أراضيها المحتلة وتقيم سلاما مستمرا مع إسرائيل عاش الآن أكثر من أربعين عاما وأكثر من المدة التى أمضاها النبى موسى حائرا فى سيناء.
المعادلة التى يبدو أن كيسنجر قد أقامها هى أن الزمن سوف يجعل إسرائيل قوية وعفية ورادعة، وسوف يجعل العرب منهكين يأتون من أجل السلام للتخلص من الإرهاق. الواقع والحقيقة ليس كذلك، فأعداء إسرائيل تصاعدوا وامتدوا حتى وصلوا إلى أعتاب المرحلة النووية، وتفتت المجتمع السياسى الإسرائيلى إلى شظايا. وللحق فإن هناك لمحات من لوم كيسنجر لأنه لم يهتم بالفلسطينيين، وأن إنديك نفسه وهو يبارك خطوات الانسحاب الجزئى التى تعطى إسرائيل زمنا للتفوق، فإنه شخصيا بات من أنصار حل الدولتين، ومخاصما لاستمرار إسرائيل فى الاستيطان ومعه غياب القدرة على صنع التسوية وبالتأكيد السلام.
فى مقال نشره مارتن إنديك فى دورية «التقدم Forward» (٢ نوفمبر ٢٠٢١) ختم عرضه لكتابه مخاصما برفق لمؤيدى إسرائيل فى واشنطن نظرا لتجاهلهم المتطلبات الإقليمية للفلسطينيين، معتقدين أن الوضع القائم مستقر، وأن خطوات اقتصادية صغيرة يمكنها أن تسهل الضغط على الاحتلال الإسرائيلى. قدم المؤلف النصح للجماعة كصديق حكيم أخذ التجربة من كيسنجر عندما انهار فجأة ما كان يعتقده من أن نظاما مستقرا يمكن الحفاظ عليه بقوة الردع الإسرائيلية التى انهارت لأنها لم تواجه قضية رفض العرب للاحتلال الإسرائيلى للأرض. أضاف «مثل ذلك يمكن أن يحدث مرة أخرى».
حديث إنديك فيه كثير من الرفق بإسرائيل واليهود فى الولايات المتحدة، ولكنه يعكس تغيرا كبيرا عما كان عندما قابلته أول مرة فى عام ١٩٨٧ فى بروكينجز، وحتى فى ذات المؤسسة فى صيف٢٠٠٤.
المعضلة أن طريق الاعتدال الجديد لا يصل إلى ما بات متاحا من فرص للسلام؛ لأن الاندفاع الصهيونى الحالى بالاستيطان المستمر فى الضفة الغربية يجعل إسرائيل تتجاوزها، حتى نواجه صداما آخر. فى الولايات المتحدة تكرار لقول أبا إيبان الشائع؛ إن الفلسطينيين لا يتركون فرصة إلا أهدروها، وفى الظن أن ذلك ينطبق الآن أكثر على إسرائيل.
نقلا عن المصري اليوم