نتائج متفاوتة:
مكاسب وإخفاقات الولايات المتحدة بعد عام من الحرب الروسية الأوكرانية

نتائج متفاوتة:

مكاسب وإخفاقات الولايات المتحدة بعد عام من الحرب الروسية الأوكرانية



لم تكن الولايات المتحدة طرفاً مباشراً في الحرب الروسية الأوكرانية التي مر عليها عام كامل الآن، لكنها مع ذلك نجحت في تحقيق مكاسب عدة تجعلها من الداعمين لاستمرار تلك الحرب؛ إذ تمكنت من جني أرباح مالية كبيرة بقيمة مليارات الدولارات جراء مبيعات الأسلحة والغاز الأمريكيين للدول الأوروبية، فضلاً عن تمكنها من استغلال هذا الصراع كمبرر للداخل الأمريكي للتوجه نحو زيادة ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية، فضلاً عن إلهاء الرأي العام الأمريكي ولو قليلاً عن المشكلات الأمريكية الداخلية، وإيجاد مبرر لارتفاع مستويات التضخم الأمريكي. وبجانب التمكن من استنزاف القدرات الاقتصادية والعسكرية للخصم الروسي، فقد تكبدت واشنطن أعباء اقتصادية وعسكرية، كما زادت الرؤية الأوروبية السلبية ضدها حول ضرورة تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية، وعدم الاعتماد على التأمين الأمريكي العسكري، فضلاً عن فشل الولايات المتحدة في حشد مختلف دول العالم في طرفها؛ حيث مال عدد كبير من الدول لاتّباع سياسة عدم الانحياز، ورفضوا الانصياع وراء رغبات واشنطن.

مع انقضاء عام كامل على بدء الحرب الروسية الأوكرانية، لم تكن انعكاسات تلك الحرب مقصورة على طرفي الصراع (روسيا وأوكرانيا)؛ إذ كانت هناك أطراف خارجية حققت بعض المكاسب جراء تلك الحرب، لكنها خسرت بعض الأمور على الجانب الآخر. وكانت الولايات المتحدة أحد تلك الأطراف؛ حيث تمكنت من تحقيق مكاسب اقتصادية جراء بيع صفقات الأسلحة والغاز الأمريكي إلى الطرف الأوروبي، فضلاً عن استنزاف الخصم الروسي، ومع ذلك فإنها تتحمل أعباء اقتصادية جراء المساعدات التي تقدمها لكييف، بجانب تصاعد الأصوات الأوروبية المطالبة بتعزيز القدرات العسكرية الأوروبية بدلاً من الاعتماد على تأمين واشنطن التي تسعى لتحقيق وحماية مصالحها دون أن تراعي مصالح الحلفاء، وهو ما دعمته بالقوانين الأمريكية الجديدة التي تعزز من الصناعة الأمريكية. وبين هذا وذاك، يمكن تشريح الأمر بصورة أكثر تفصيلاً، وتوضيح أثر ذلك على مسار الحرب.

مكاسب واشنطن

إن هناك عدداً كبيراً من المكاسب التي جنتها واشنطن من استمرار تلك الحرب، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:

1- تحقيق مبيعات أكبر للأسلحة وعقود الغاز الأمريكي: يتم اتهام الولايات المتحدة بأنها ترغب في إطالة أمد الحرب الروسية الأوكرانية نظراً لحجم الأرباح المهولة التي تجنيها من وراء تلك الحرب، والتي تأتي من مبيعات شركات الأسلحة الأمريكية، والتي ستستمر مع استمرار تقديم الدول الأوروبية المساعدات العسكرية لكييف؛ حيث ستضطر إلى شراء المزيد من الأسلحة الأمريكية مع استنزاف مخزون الأسلحة لديها، فضلاً عن الغاز الأمريكي الذي يتم بيعه بأسعار مرتفعة للدول الأوروبية بعد وقف روسيا لتصدير الغاز لأوروبا، حيث تصل تكلفته في أوروبا إلى أربعة أضعاف تكلفة بيعه في الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن تستمر الدول الأوروبية في الحصول على أغلب احتياجاتها من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة خلال عام 2023. ويُذكر أن واشنطن قد حققت مكاسب بقيمة 35 مليار دولار في سبتمبر 2022 من بيع الغاز الطبيعي لأوروبا مقارنة بـ8,3 مليارات دولار حتى سبتمبر 2021، وفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية.

2- استنزاف قدرات الخصم الروسي: يُسهم استمرار موسكو في تلك الحرب في استنزاف القدرات العسكرية والاقتصادية؛ إذ إنها تستنزف الموارد الروسية، وهو ما يكون له أثر إيجابي بالنسبة لواشنطن، خاصة أن ذلك يحد من القدرات الروسية، ويجعلها مستنزفة، بما يقلل من مستوى منافستها للولايات المتحدة الأمريكية. وبخصوص هذا الأمر، يشير بعض الساسة الغربيين إلى أن موسكو خسرت نحو 200 ألف فرد ما بين قتيل وجريح منذ بدء الحرب، فضلاً عن خسائرها الاقتصادية، وخسائرها الجيوسياسية في حال ربحت أوكرانيا الحرب، بجانب كسر الصورة النمطية حول التفوق العسكري الروسي على أوكرانيا؛ حيث لم تتمكن موسكو حتى الآن من كسب الحرب، كما تم تحرير بعض المدن الأوكرانية التي تم احتلالها من القوات الروسية على غرار مدينة خاركيف.

3- زيادة قوة الدولار الأمريكي: أثَّرت الحرب سلباً على قوة اليورو داخل منطقة الاتحاد الأوروبي، في مقابل زيادة الثقة العالمية في الدولار الأمريكي، والذي نجح في الحفاظ على قوته طوال عام الحرب، حتى إنه بلغت قيمته في أكتوبر 2022 نحو 1,05 يورو، ليعود ويسجل 0,94 يورو في الأسبوع الأخير من عام 2022، وهي نفس قيمته عند بداية العام. وهو ما يمنح ثقة أكبر للمستثمرين في قوة الاقتصاد الأمريكي وقدرته على مواجهة الصدمات العالمية.

4- أهمية التحالف مع أوروبا: أكَّدت تلك الحرب أن الولايات المتحدة لا يجب عليها أن تتخلى عن القارة الأوروبية، وأن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) يجب عليهم أن يستمروا في النظر لروسيا باعتبارها خصماً مباشراً، وتهديداً صريحاً لدول الحلف، ولذلك هناك دول تخلت عن حيادها، وتحديداً فنلندا والسويد، وسعوا للانضمام للحلف لردع التهديدات الروسية. وقد أسهم تقديم الدول الأوروبية والولايات المتحدة للدعم العسكري والمعنوي لأوكرانيا في دحض الاحتمالات الأولية عند بداية الحرب حول أن أوكرانيا لن تتمكن من الصمود طويلاً أمام دولة مثل روسيا، وأنها ستسقط سريعاً على يدها؛ إذ إن استمرار كييف في المقاومة حتى الآن شكك العالم أجمع في القدرات العسكرية الروسية.

5- مبرر لزيادة ميزانية البنتاجون: منحت تلك الحرب الإدارة الأمريكية مبرراً أكبر لزيادة ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)؛ حيث إن استمرار وجود خصوم على شاكلة روسيا والصين يهددون الأمن القومي للولايات المتحدة وحلفاءها الاستراتيجيين، يجعل من الضروري الاستمرار في تعزيز قدرات القوات المسلحة الأمريكية، وتحديث وتطوير الأسلحة المختلفة، حتى تكون أكثر قدرة في المستقبل على مواجهة التهديدات المحيطة بها، والتي ستتصاعد مع مرور الوقت، وفقاً لما يروج له الساسة الأمريكيون الذين يرون أن الصين وروسيا ستتفوقان على الولايات المتحدة في مستوى القدرات النووية في حال لم تستمر هي الأخرى في تطوير قدراتها النووية.

6- إلهاء الرأي العام الداخلي عن أزمات الداخل: تستغل الإدارة الأمريكية الحرب الروسية الأوكرانية في إلهاء الشعب الأمريكي قليلاً عن المشكلات الداخلية التي أخفقت الإدارة في حلها حتى الآن، والتي على رأسها ضبط مستويات التضخم الأمريكية، ومشكلة العنف المسلح، وكذا مشكلة الهجرة غير النظامية على الحدود الجنوبية الأمريكية المشتركة مع المكسيك؛ إذ يكثف أعضاء الإدارة الأمريكية حديثهم عن مستويات المخاطر الخارجية المحيطة بالولايات المتحدة، التي تمثلها موسكو وبكين على وجه التحديد، وعلى التحركات الأمريكية على المستويات الخارجية لدرء تلك المخاطر، مشيرين إلى أن واشنطن نجحت في السيطرة على أوضاع الاقتصاد الأمريكي على الرغم من كل تلك التحديات الخارجية، والتي كانت عاملاً أساسياً في ارتفاع مستويات التضخم الأمريكي إلى مستويات لم تحققها الولايات المتحدة منذ أربعة عقود، وبالتالي فواشنطن عليها التدخل لضبط أوضاع تلك الحرب، في الوقت التي تعمل فيه على معالجة مشكلاتها الداخلية، في محاولة من جانبهم لاستعطاف الرأي العام الأمريكي، والحفاظ على تأييده للإدارة الديمقراطية.

إخفاقات مقابلة

واجهت واشنطن تحديات مختلفة جراء الغزو الروسي لأوكرانيا، ويمكن إيجاز أهم تلك التحديات فيما يلي:

1- صحوة أوروبية ضد واشنطن: أسهمت تلك الحرب في ذيوع صيت الأصوات المنادية بصياغة استراتيجية أوروبية لإيقاف تلك الحرب التي تصب في صالح واشنطن، وتلقي بأضرار كبيرة على القارة الأوروبية. كما كثرت الأصوات التي تطالب القارة الأوروبية بعدم الاعتماد على واشنطن للدفاع عنها، وضرورة عملها على تنمية قدراتها العسكرية، ودعم جيوشها حتى تكون أكثر قدرة في المستقبل على الدفاع عن نفسها ضد أي خطر دون أن تضطر إلى الاعتماد على مساعدات الولايات المتحدة، ودعمها العسكري. خاصة أن هناك انتقادات أخرى تتعلق بالقوانين التي مررتها الإدارة الأمريكية داخل الكونجرس منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض، والتي تصب في صالح الاقتصاد الأمريكي، دون أن تراعي مصالح الشركاء الاقتصاديين الأوروبيين، على غرار قانون الحد من التضخم، كما صرح بذلك مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل”. وعلى جانب آخر، كان هناك حديث حول أن مستويات التضخم في أوروبا فاقت تلك المستويات الأمريكية. ففي نوفمبر 2022، وصلت مستويات التضخم في هولندا إلى 14,3%، وفي ألمانيا وصلت إلى 11,6%، وفي المملكة المتحدة بلغت 11,1%، مقارنة بالولايات المتحدة التي بلغ مستوى التضخم بها نحو 7,7%.

2- فشل في حشد المزيد من الحلفاء: لم تنجح الولايات المتحدة في تعبئة وحشد دعم عدد كبير من حلفائها ليكونوا في صف الدول الغربية من حيث موقفهم تجاه الحرب الروسية الأوكرانية؛ حيث رفضت بعض الدول أن تتبنى الموقف الغربي، وفضلت اتباع أسلوب عدم الانحياز بحيث لا تؤثر علاقتها مع الدول الغربية –وتحديداً مع الولايات المتحدة– على حساب علاقتها مع روسيا، على غرار دول الشرق الأوسط، ولا سيَّما الدول المنتجة للنفط التي رفضت زيادة كمية النفط المنتجة كما طالبت واشنطن، أو دولة مثل الهند، وبذلك لم تتمكن واشنطن من تقسيم العالم لفريقين كما سعت، فريق يدعم الديمقراطية والرؤى الغربية، وفريق آخر يدعم الأفكار الاستبدادية التي تمثلها كل من الصين أو روسيا.

3- فرض أعباء اقتصادية أمريكية: يؤكد العديد من الساسة الأمريكيين أن استمرار تلك الحرب يلقي بالمزيد من الأعباء الاقتصادية على واشنطن؛ إذ إنها مضطرة لتقديم مساعدات عسكرية ومالية لأوكرانيا وهو ما يضغط على الميزانية الأمريكية، ويُدخل الكونجرس الأمريكي في حالة من الخلاف المحتدم بين الجمهوريين والديمقراطيين. فبينما يرفض الجمهوريون زيادة الميزانية، يرى الديمقراطيون أن هناك ضرورة ملحة لذلك، وهو ما يعيق مسألة تمرير الميزانية داخل الكونجرس الأمريكي، ويصنع عائقاً أمام الإدارة الأمريكية التي قد تكون غير قادرة على سداد ديونها في حال لم يتم التوصل إلى حل أو اتفاق بحلول يونيو القادم. فضلاً عن أن استمرار الحرب سيدفع الولايات المتحدة للاستمرار في رفع أسعار الفائدة لكبح زمام التضخم الذي يسهم في ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومواد الطاقة، بما قد يزيد من احتمالية حدوث ركود اقتصادي. بجانب أن العقوبات على بعض الشركات الروسية التي تعمل مع الشركات الأمريكية قد يتسبب في حدوث خسائر في الولايات المتحدة.

وتؤكد الإدارة الأمريكية أن تلك الحرب قد كبدتها ميزانية اقتصادية كبيرة جراء المساعدات العسكرية والمالية التي قدمتها لكييف، والتي تتخطى 20 مليار دولار أمريكي. فضلاً عن أن تلك الحرب قد تسببت في استنزاف المخزون الاستراتيجي للذخائر والأسلحة الأمريكية، جراء استمرار السحب وتقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا. علاوة على تأكيدها أن الفارق في أسعار الغاز بين الولايات المتحدة وأوروبا لا تجني هي أرباحه، وإنما تجنيه الشركات الأوروبية المسؤولة عن بيع الغاز الأمريكي المسال في القارة الأوروبية، بما في ذلك شركة توتال الفرنسية.

4- غياب القدرة على حسم نتيجة الحرب: يرى مجتمع الاستخبارات الأمريكي أن هناك صعوبة في حسم تلك الحرب لصالح طرف بعينه، وأن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو الاستمرار في حرب الاستنزاف، مشيراً إلى أن ذلك قد يطول لسنوات أو ربما لأشهر، لأن الطرفين متعنتان في موقفهما من الصراع؛ حيث تتمسك كييف بتحرير أراضيها التي احتلتها موسكو، بينما ترفض موسكو هذا الأمر. ومع استمرار الأطراف الخارجية في دعم الطرفين ومدهما بالسلاح، فإن ذلك سيطيل أمد الحرب.

صيغة تفاوض

ختاماً، يمكن القول إنه على الرغم من أن الولايات المتحدة تكبدت عدداً من الخسائر جراء استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، لكن المكاسب التي حققتها كانت أكبر، وهو ما يدعم الاتهامات الأوروبية لواشنطن بأن الدفع نحو استمرار تلك الحرب سيصب في صالح الطرف الأمريكي على حساب الطرف الأوروبي، بما قد يدفعهم في وقت ما في حال لم يستطيعوا مواجهة الضغوط الاقتصادية عليهم إلى البحث عن صيغة للتفاوض مع موسكو، لإيقاف تلك الحرب، وعودة تدفقات الطاقة الروسية إلى الأراضي الأوروبية، بما سيشكل حينها تحدياً كبيراً أمام واشنطن التي سيكون عليها الرضوخ للأمر وتغيير موقفها حتى لا تفقد حلفاءها الأوروبيين.