تعرف عقيدة الأمن القومي للدولة عادة بأنها حصيلة الأسس والمفاهيم التي تحكم اتخاذ القرارات السيادية حول القضايا الوجودية المحورية، وتشكل مبررات وقواعد استخدام القوة العسكرية والأمنية بعد تجاوز مرحلة العمل الدبلوماسي.
ونظراً إلى أهمية قضايا الأمن القومي، أتابع بانتظام ما ينشر أو يذاع في هذا الخصوص عامة وفي الشرق الأوسط بخاصة، سعياً إلى المعرفة والاطلاع، وبحثاً عن مسارات لحماية المصلحة المصرية والعربية، واستعداداً لأي أخطار على الأمن والاستقرار، ومن ثم أبدأ اليوم بالدول الشرق أوسطية غير العربية.
وعلى الرغم من عدم وجود مستند رسمي علني يشرح تلك العناصر ويصيغ هذه العقيدة لدولة إسرائيل، على غرار ما يتم في كثير من الدول الغربية وخصوصاً الكبرى منها، فهناك توافق داخلي عام على أهمية إقرار عقيدة رسمية قابلة للتطوير، بدلاً من جعل قرارات الأمن القومي رهناً للأحداث أو كرد فعل للأخطار، وأقرب ما أصدرته إسرائيل في هذا الخصوص كانت وثيقة قدمها بن غوريون لمجلس وزارته عام 1952، ومبادرة لرئيس الأركان الإسرائيلي عام 2015 بإعداد مستند استراتيجي لوزارة الدفاع، كما تردد أن بنيامين نتنياهو أعد وثيقة رسمية في هذا الصدد عام 2018، كما أعد بعض القيادات العسكرية وثيقة حول الأمن القومي الإسرائيلي في خريف 2019.
ومع هذا فمراجعة كثير مما نشر عن هذه الأوراق وغيرها تسمح باستخلاص عدد من المبادئ التي تحكم عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي، ومنها أن مساحة جيرانها تتجاوز مساحتها كثيراً، وهناك توافق عرفي بأن منطقة الارتكاز لتلك العقيدة تقع ما بين تل أبيب والحزام الأخضر الذي يبعد منها مسافة 10 كيلومترات لا غير، وأن عليها دوماً الحفاظ على القدرة لنقل قواتها من جبهة لأخرى، وضرورة التمسك بضمان القدرة لحماية نفسها أمنياً من دون الاعتماد على الغير، وبأن تكون المؤسسة العسكرية قوية وقائمة على التجنيد الإجباري، والحفاظ على قدرات الردع والتفوق الاستراتيجي على القدرات العسكرية لجيرانها مجتمعين، وكفاءات أمنية واستخباراتية عدة، وحيازة الأسلحة الذكية التي تسمح بتوجيه الضربات العسكرية لأهداف محددة.
ومع التطور التكنولوجي المعاصر، فعليها التميز في القدرات الدفاعية السيبيرية، فضلاً عن ضرورة الاحتفاظ بالقدرة على الدفاع عن البنية الأساسية الإسرائيلية الضرورية، وهو ما يتطلب زيادة الإنفاق العسكري الإسرائيلي.
ويحذر المحللون الإسرائيليون في الآونة الأخيرة من التسرع في الدخول إلى حروب غير محسوبة أو الحروب الوقائية، مفضلين الاعتماد على قوة الردع وأن تكون المواجهات العسكرية بعيداً من حدودها، على أن تكون إسرائيل قادرة على القيام بعمليات عسكرية هجومية على الجهتين في آن واحد، ومع التأكيد الدائم على القدرات الإسرائيلية في المناورة.
ويرى المحللون ضرورة أن يتوافر لديها دائماً قدرات برية قوية، والقدرة على السيطرة على الأراضي، خصوصاً إذا كانت ساحة الضفة الغربية من نهر الأردن أو لبنان، ومن اللافت للنظر أن هناك يقيناً بأنه يصعب استكمال الصورة المطلوبة لعقيدة الأمن القومي في ظل الانقسام الشديد داخل إسرائيل حول معالم حدودها الشرقية.
لم أجد وثيقة رسمية معلنة تحدد الأمن القومي لإيران، وإنما ألقى إبراهيم رئيسي الرئيس الإيراني الجديد أول خطاب رسمي له بعد انتخابه، ويحتوي على بعض المؤشرات إلى السياسات المقبلة والتي تبدو أكثر تشدداً، وإنما الأهم أنه عبر عن عدد من الأسس التي تعكس مفهوم الأمن القومي الإيراني وحدود الممارسة الإيرانية وتوجهاتها، أولها والمهم في قراءة السياسات الإيرانية المقبلة كانت أنه أكد مرة أخرى أن على إيران التصدي للأخطار التي قد تتعرض لها بعيداً من حدودها، باعتبارها دولة مستهدفة من الغير وخصوصاً من الدول الكبرى، أي أن مفهوم الأمن القومي الإيراني مفهوم إقليمي ويمتد خارج حدوده بمساحات غير قليلة، وهو مؤشر إلى أن السياسات الإيرانية الإقليمية وانغماسها في القضايا الإقليمية لن تنكمش في المستقبل القريب، وأكد رئيسي أن بلاده ستتجه بمزيد من الاهتمام شرقاً، أي أن الاهتمام الإيراني التقليدي بالغرب أو بالدول الكبرى سينخفض، وهو تحول مهم في مفهوم الأمن القومي الإيراني تاريخياً، الذي أعطى اهتماماً كبيراً بالغرب في إطار التوازن العالمي بين الأقطاب الدولية، في الماضي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وهو أمر قد يتكرر مرة أخرى إنما مع توجه نحو الشرق، وتنامي النفوذ الصيني في الشرق الأوسط، وتصاعد المنافسة دولياً مع الولايات المتحدة.
وعبر رئيسي كذلك عن اهتمامه بتنمية علاقات إيران مع دول جوارها الإقليمي، وهي إشارة متكررة في الخطاب السياسي الإيراني أخيراً، خصوصاً أن هناك قناعة بأن التحاور مع جيرانها مباشرة، وبعيداً من الدول الكبرى، تضعها في موقع تفاوضي أفضل في الحسابات الإيرانية، وهنا يجب عدم إغفال ما يتردد عن جهود التهدئة بينها وبين السعودية، من خلال اتصالات أكاديمية، أو بين الرسميين تحت رعاية عمانية أو عراقية، وهو ما حمس إيران للمشاركة بالاجتماع الأخير في بغداد.
ولم يغفل رئيسي عن التنويه بأنه مهتم بمواصلة الجهود الدبلوماسية الدولية، والتي تقع على رأسها حالياً المفاوضات الخاصة باستئناف الاتفاق النووي الإيراني، ولا زلت عند اعتقادي بأن جميع الأطراف تفضل استئنافها عن زوالها، علماً أن المراحل الأخيرة في المفاوضات ستكون بالغة الحساسية مع تمسك الجانب الإيراني بضمان عدم تكرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إجراءاتهم الأحادية المخالفة للاتفاق المبرم، إضافة إلى رفض رئيسي أي تناول للقدرات الإيرانية الصاروخية في الاتفاق المبرم حول الموضوع النووي، وهو موقف مرتبط بمنهجية إيران الإقليمية، وسعيها إلى الدخول في مواجهات أو التصدي للأخطار بعيداً من حدودها.
لا يوجد مستند رسمي علني يحدد عقيدة الأمن القومي في إسرائيل أو إيران، إنما هناك مؤشرات عدة وواضحة من البلدين للظروف التي تحكم استخدامها للقوة وأُسس ذلك، وهي مؤشرات تتجاوز كثيراً ما يخرج من الساحات العربية، على الرغم من أنها هي المنافس التقليدي للدولتين والمستهدف والمشتبك معهما.
ألم يعد من المناسب بلورة الدول العربية مفاهيم وأسس أكثر وضوحاً تحدد أمنها القومي فرادة أو إقليمياً؟
وللحديث بقية…
نقلا عن اندبندنت عربية