تداعيات الصراع:
مغزى دعوة حفتر إلى “انتفاضة التغيير” في ليبيا

تداعيات الصراع:

مغزى دعوة حفتر إلى “انتفاضة التغيير” في ليبيا



بمناسبة العرض العسكري الذي أُقيم بمدينة سبها، جنوب ليبيا، في 17 أكتوبر الجاري، أكد المشير خليفة حفتر، القائد العام للقوات المسلحة الليبية، فشل جميع مسارات التسوية السياسية والاقتصادية في ليبيا. واللافت هو دعوة حفتر الليبيين إلى “انتفاضة عارمة” تُنهي ما أسماه “العبث السياسي، الذي فاقم معاناتها، والذي جلب المتربعين على السلطة الآن”. ولعل دعوة حفتر هذه تُثير تساؤلات متعددة، فضلاً عن كونها تتضمن عدداً من الرسائل التي يُريد أن يبعث بها إلى الداخل والخارج في آنٍ واحد.

لم تكن الدعوة التي وجهها المشير خليفة حفتر إلى الليبيين، في 17 أكتوبر الجاري، بضرورة “الانتفاضة” لتغيير الواقع الذي تمر به البلاد، هي الأولى من نوعها، سواء بالانتفاضة ضد الطبقة السياسية في البلاد، أو الإعلان عن هذه الدعوة من الجنوب الليبي. فإضافة إلى مدينة سبها، وفي أثناء زيارته لمدينة براك الشاطئ، جنوب البلاد، في 27 سبتمبر الماضي، حث حفتر الشعب الليبي على “الانتفاضة السلمية” لإسقاط ما أسماه “الواقع المأساوي في البلاد”.

وقبلها بأيام، في 20 سبتمبر الماضي، في كلمته خلال حفل استقباله من قِبل أهالي وحكماء وأعيان قبائل جنوب ليبيا، في مدينة غات الليبية، على الحدود مع الجزائر، طالب حفتر الشعب الليبي بانتفاضة “تغيير الواقع المرير” متعهداً بالحماية لهذه الانتفاضة.

رسائل متعددة

يبدو إصرار حفتر، خلال الآونة الأخيرة، على دعوة الليبيين إلى الانتفاضة، كنوع من التأكيد على رسائل يبعث بها إلى الداخل والخارج، لعل أهمها ما يلي:

1- اتهام الطبقة السياسية بالمسئولية عن تأجيج الأزمة: يأتي اعتبار حفتر أن سيطرة الصراع السياسي على المشهد في ليبيا قد تسبب في إهدار وقت الليبيين، ليؤكد الرسالة التي يُريد حفتر توجيهها إلى الطبقة السياسية الليبية. فمن خلال محاولته تأليب الرأي العام الليبي ضد الانقسام السياسي الحاصل في البلاد، بين حكومتين، يدفع حفتر بالطبقة السياسية إلى خانة الاتهام أمام الليبيين، وهذا ما يبدو بوضوح في دعوته الليبيين للخروج إلى الشارع، والانتفاضة ضد فشل الطبقة السياسية الحالية؛ وهو ما يتبين عبر قوله: “إن سيطرة الصراع السياسي على المشهد تسبب في إهدار وقت الليبيين الثمين في المهاترات والمناكفات الصورية، التي أخفقت في تحقيق حد أدنى من الوفاق”.

2- تأليب الرأي العام ضد الفساد المالي الحكومي: لم يتوقف حفتر عند حد دعوة الليبيين إلى الانتفاضة ضد الطبقة السياسية الحالية؛ بل وجه الاتهام بالفساد المالي للحكومات المتعاقبة على الحكم في ليبيا، خاصة وأنها جميعاً من الغرب الليبي، وتحديداً من العاصمة طرابلس، فقال: “إن حجم الأموال الطائلة التي أنفقتها الحكومات المتعاقبة، خلال العشر سنوات الماضية، كان بوسعها أن ترفع الحالة المعيشية للمواطن، وأن تفتح المجالات لإحداث تطور تنموي مذهل في جميع القطاعات”. وهكذا، حمَّل حفتر الحكومات الليبية مسئولية التدهور المعيشي الذي يحياه الليبيون، خاصة عندما أضاف في كلمته: “لكنها (الأموال الطائلة) أُهدِرت في منظومة الفساد الحكومي، دون أن تُستثمر في تحقيق النمو والانتعاش الاقتصادي”.

3- استمالة قبائل الجنوب لمؤازرة القوات المسلحة: من خلال احتفاء سكان جنوب ليبيا بزيارته، وزيارة اللجنة العسكرية، عبر احتشاد كبير من الليبيين، وأثناء كلمته في مدينة سبها، أشار حفتر إلى الوضع الخدمي السيئ في الجنوب الليبي، محملاً المسئولية لكافة الحكومات الانتقالية السابقة في الغرب الليبي، والتي صرفت مئات المليارات دون الالتفات لتحسين معيشة الجنوب؛ خاصة أن الانقسام السياسي الذي تعانيه ليبيا قد تولد عنه انبثاق أكثر من “ثماني” حكومات خلال “عشر” سنوات، وشمل جميع المؤسسات العامة والخدمية والسياسية، وحتى المصرفية.

وبذلك، فهو يبعث برسالة مفادها الإهمال الجسيم للجنوب، في محاولة واضحة لاستمالة سكان الجنوب الليبي إلى جانبه، وجانب الجيش الليبي عموماً، وهو ما يتبدى من خلال قوله: “نشعر دائماً أن الجنوب يستحق المزيد، وأننا لم نوَفِ الجنوب حقه، وأن عطاءنا يظل له قليلاً نسبة إلى ما يجود به على سائر البلاد”. وحول أهمية مدينة سبها كـ”عاصمة” للجنوب الليبي، أكد حفتر على أنه “مهما قدم الجيش من جهود وتضحيات من أجل أمن واستقرار الجنوب، تبقى سبها عموده الفقري، وتستحق المزيد”.

4- التأكيد على جاهزية الجيش والسعي لوحدته: خلال العروض العسكرية الضخمة التي شهدتها مدينة سبها، لوحدات القوات المسلحة الليبية، وبحضور أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة “5+5″، كانت أهم الرسائل الموجهة من المشير خليفة حفتر إلى الخارج، هي جاهزية الجيش الليبي ومقدرته على حماية “الانتفاضة” التي يدعو إليها القائد العام للجيش. إذ يؤكد حفتر على “أن الجيش الوطني الليبي يعمل على تطوير قدراته لبلوغ أعلى درجات الأمن والاستقرار”، وأضاف حفتر: “نُعلن جاهزيتنا لحماية الشعب في انتفاضته لتغيير الواقع، وما على الشعب إلا أن يتقدم لتصدر المشهد، وسيجدنا إلى جانبه”.

والملاحظ هو دعوة حفتر القوى الوطنية للعمل مع القوات المسلحة الليبية، في سبيل تغيير الطبقة السياسية المنقسمة على نفسها؛ حيث يشير لذلك بقوله: “نُعلن من سبها أن القيادة العامة تفتح أبوابها لكل القوى الوطنية في كل الأوقات، ولن تتردد في مساندتها والعمل معها لإنقاذ الوطن”.

5- الإشارة إلى فشل المسارات السياسية في المصالحة الوطنية: في رسالة واضحة، حول فشل كافة المسارات السياسية في تحقيق المصالحة بين الأطراف الليبية، بسبب سيطرة الصراع على السلطة والحكم؛ أكد حفتر على أن “المهاترات والمناكفات الصورية أخفقت في تحقيق أدنى قدر من الوفاق، وفاقمت الأزمة، وأدت إلى الفشل في تجاوزها”.

ولعل فحوى هذه الرسالة يتضمن ما يعلنه حفتر من أن غياب “سلطة” تستطيع أن تبسط هيمنتها على عموم البلاد، ساهم في ذلك الانقسام السياسي الحاصل منذ سنوات، وتلك الحالة من الاتهامات المتبادلة بين كافة الأطراف بـ”عدم الشرعية”، أو “محاولة الخروج على الشرعية”، وغيرها من اتهامات تؤدي إلى المزيد من الانقسام والتأزم السياسي والأمني. هذا فضلاً عن اتهامه للقوى السياسية بأنها بدلاً من أن تُقدم الحلول الناجعة لذلك التدهور الأمني والعسكري والانقسام السياسي؛ فقد ساهمت -على العكس من ذلك- في ازدياد حالة التوتر والاحتقان السياسي عبر الخلافات المستمرة، والتجاذبات حول المصالح من مختلف التوجهات.

6- دعم وحدة ليبيا أمام الدعوات الجهوية: ضمن ما حفلت به كلمته، أكد حفتر على الوحدة الليبية، بقوله: “لن تسقط ليبيا ما دام في جيشها الوطني قلب ينبض، وما كان لكتائب الجيش أن تؤدي دورها بنجاح لولا تعاونكم (يقصد الليبيين عموماً، وسكان الجنوب بوجه خاص) معنا”.

واللافت أن هذا التأكيد من جانب حفتر إنما يأتي في مواجهة ما تردد مؤخراً على الساحة الليبية من تبني بعض الأطراف السياسية لـ”خيار الفيدرالية” في ليبيا؛ وذلك تحت تأثير من النزعات الجهوية. إذ يمكن ملاحظة الاتجاهات الانفصالية الناتجة عن هذه النزعات؛ حيث عادت إلى الواجهة الأفكار الخاصة بإنشاء ثلاثة أقاليم فيدرالية، في الشرق والغرب والوسط، وهو ما ينبئ عن اتجاهات تستهدف تقسيم الدولة الليبية، أو على الأقل تمزيق النسيج الاجتماعي الليبي بشكل يؤدي إلى تقوية النفوذ القبلي والجهوي، واستقلال الكتل الاجتماعية بالإقليم التي تعيش على أرضه.

إشكالية رئيسية

خلاصة القول، إن المشير خليفة حفتر يحظى بتأييد واسع بمناطق شرق ووسط ليبيا، إضافة إلى الجنوب الليبي، حتى إن بعض القبائل أكدت الوقوف بجانبه بالمال والسلاح لـ”بناء جيش ليبي قوي”. صحيح أن الهدف المُعلَن من العروض العسكرية التي شهدها الجنوب الليبي، منذ أيام، هو مكافحة الإرهاب وطرد العناصر الإسلامية المتطرفة؛ إلا أنه يبقى من الصحيح أيضاً أن ذلك نفسه يؤشر إلى الكيفية التي تجري بها الأمور على الساحة الليبية. ومن ثم، لا يبدو أن ليبيا سوف تتمكن من الخروج من عنق الزجاجة بسهولة وبدون “ثمن” قد يعرقل بناء الدولة الليبية لفترة من الزمن. والواقع أن التشديد على أن الساحة الليبية لن تتمكن من تجاوز هذه الإشكالية الكبرى بسهولة، إنما يعود إلى عدد من الاعتبارات التي تتحكم في المسارات السياسية المتفاعلة داخل هذه الساحة، يأتي في مقدمتها “الفشل الذريع” الذي بدت عليه النخبة السياسية في إدارة شئون البلاد طوال سنوات طويلة مضت.