تباينات مبكرة:
مغزى تجدد الجدل حول الانسحاب الأمريكي من العراق

تباينات مبكرة:

مغزى تجدد الجدل حول الانسحاب الأمريكي من العراق



أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في أول مؤتمر صحفي لحكومته في بداية نوفمبر الجاري، عن أنه مُفوَّض من القوى السياسية بإجراء حوار مهني مع قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لتحديد الحاجة من تواجدها في العراق. وفي المقابل، ردّت السفيرة الأمريكية لدى بغداد آلينا رومانوسكي بلهجة حاسمة بأن قوات بلادها لن تغادر العراق.

وتعكس مواقف الجانبين طبيعة العلاقة بين الحكومة الجديدة وواشنطن، والتي يعتقد أنها ستنطوي على قدر من التوتر بينهما بدأ بشكل مبكر بمجرد تشكيل الحكومة، وهو أمر متوقع في سياق تصاعد التوتر مع إيران، وهو سياق تقليدي قائم منذ عام 2003، حيث ينظر إلى أن العراق تعكس مؤشرات هذه العلاقة، في ظل استغلال الطرفين الساحة العراقية لتصفية حساباتهما، وهي المعادلة التي سعى رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي إلى تحييدها.

تحديات مرحلية

في مقابل ذلك، يُعتقد أن رئيس الوزراء العراقي الجديد سيواجه تحديات مرحلية في اعتماد نهج سلفه، على الرغم من أنه يسعى لاعتماد الآليات نفسها، حيث أكد على أن يتم الأمر عبر آلية الحوار الاستراتيجي، وفي إطار فني، ولا يتعلق بالقوات الأمريكية فقط، وإنما بكامل قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة، والتي لا تزال تدعمها قوات ألمانية وبريطانية وقوات غربية أخرى.

 كما أن خطاب السوداني لم يُشرْ بشكل واضح إلى إنهاء التواجد العسكري للتحالف، ولكن لـ”تحديد مدى الحاجة إلى المستشارين والمدربين”؛ إلا أن حديث السفيرة الأمريكية برفض إنهاء التواجد الأمريكي، سحب السياق إلى اتجاه مختلف وَضَعَ الموقف العراقي في إطار المطالبة بإنهاء التواجد الأمريكي. ويُرجَّح أن رد الفعل الأمريكي ينبع من ترجمة الموقف السياسي للولايات المتحدة وخطتها في العراق والإقليم بشكل عام، وحساباتها تجاه أطراف تتجاوز العراق، لا سيما إيران، أكثر من كونه رد فعل على خطاب السوداني المعلن في هذا الصدد.

دلالات عديدة

في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى طبيعة مواقف الأطراف حيال ملف التواجد العسكري الأمريكي في العراق ودلالات هذه المواقف، وذلك على النحو التالي:

1- تقييم حدود العلاقة بين حكومة السوداني وإيران: يتكرر المشهد الحالي بأشكال مختلفة مع تشكيل الحكومات العراقية، حيث يتجه كل طرف إلى استكشاف سياسة الطرف الآخر وحساباته. وبصيغة أدق، تسعى واشنطن إلى استكشاف طبيعة المسافة بين الحكومة وإيران، وأجندة طهران المرحلية مع الحكومة، باعتبارها محدداً للسياسة الأمريكية.

وعلى الجانب الآخر، وفي السياق ذاته ينظر إلى أن هذا الملف لا تصيغه الحكومة كخطة عمل سياسي حصراً، بقدر ما يُعد انعكاساً لمواقف القوى السياسية ذات التأثير على الحكومة. إذ أن الإطار التنسيقي هو القاعدة الرئيسية للحكومة، وموقفه معارض للإبقاء على قوات أمريكية في العراق.

2- تبني تكتيك المقايضة السياسية: نقلت تقارير عربية عن مصادر عراقية أن السفيرة رومانوسكي طرحت صيغة للمقايضة خلال حواراتها مع السوداني بعد توليه رئاسة الحكومة، لاستكشاف مسار العلاقة بين الجانبين. وتشير بعض هذه التقارير إلى أن رومانوسكي عرضت على السوداني مقايضة بشأن ترتيبات الأوضاع مع الإطار التنسيقي والفصائل العسكرية الموالية له في الحشد الشعبي لتحسين صورة تلك المكونات، أو بمعنى آخر قبولها، مقابل تراجع العراق عن “قانون منع التطبيع مع إسرائيل”، وهو القانون الذي دعمه نواب الكتلة الصدرية المحسوبة على الزعيم الشيعي مقتدى الصدر.

وفي حين أن تلك التقارير أشارت إلى أن الحكومة ستبادر إلى عرض الأمر على البرلمان، وهو أمر غير متوقع بالنظر لموقف التيار الصدري أيضاً المتقارب مع موقف الإطار في هذا الملف، فمن الصعوبة بمكان طرحه على البرلمان، وحتى في حال طرحه فلن يتم تغييره على الأرجح، بل سيتم التأكيد عليه.

3- تناقض واضح في السياسة الأمريكية: لا تريد الولايات المتحدة الانسحاب من العراق على غرار انسحابها من أفغانستان، رغم أن هذا السياق يكشف عن تناقض في الموقف الأمريكي؛ إذ إن الحجج التي تقدمها في سياق الحاجة إلى البقاء في العراق لمكافحة الإرهاب، ودعم القوات العراقية النظامية، كان السياق ذاته الذي تروج له في أفغانستان، ورغم ذلك خرجت من أفغانستان مخلفة وراءها ساحة غارقة في الفوضى.

واللافت أن هناك تقارير أمريكية تنقل عن دبلوماسيين وسياسيين في إدارة الرئيس جو بايدن أنه لا يريد تكرار المشهد ذاته في العراق، وأن هناك أطرافاً سياسية عراقية (الأكراد والسنة) أبلغت مسئولين ودبلوماسيين أمريكيين برغبتهم في عدم خروج القوات الأمريكية، بدعوى الانعكاسات المتوقعة لخروجها على تلك القوى السياسية.

4- استمرار المواقف الإيرانية المزدوجة: تسعى إيران إلى مواصلة السياسة السابقة التي تبنتها تجاه التواجد الأمريكي في العراق، وهي سياسة مركبة، فهي بحاجة إلى الإبقاء على القوات الأمريكية في العراق من أجل استهدافها عبر أذرعها في العراق، ورفع كلفة الإجراءات العقابية التي تتخذها واشنطن، خاصة في ظل تعثر المفاوضات النووية رغم انعقادها منذ 6 أبريل 2021. وهى من جهة أخرى تضغط عبر أذرعها السياسية من أجل إنهاء هذا التواجد لإظهار أن الولايات المتحدة هي قوة منبوذة في العراق.

السيناريو التالي

إذن، تشكل المؤشرات السابقة استمرار معادلة تصفية الحسابات الإيرانية-الأمريكية في الساحة العراقية، كدلالة رئيسية على المشهد الحالي، وهو ما سيضع الحكومة العراقية في مأزق صعب. ففي السابق كانت حكومات ومنها حتى الحكومات المقربة من طهران تسعى إلى هندسة قدر من التوازن في هذه العلاقة، بحيث تلعب الحكومة دوراً مفصلياً في إدارة هذه التوازنات، وهو السياق الذي سيحكم السيناريو التالي في ظل حكومة السوداني، وفي الغالب فإن التوتر سوف يكون سمة رئيسية في هذا السيناريو.

فعلى الرغم من اتجاه الطرفين (بغداد وواشنطن) للحوار، سواء عبر اللقاءات التي أجريت ما بين السوداني ورومانوسكي، أو دعوة الأول لاتباع الآلية التي انتهجها سلفه (مصطفى الكاظمي) وهي آلية الحوار الاستراتيجي، إلا أنه لا يُعتقد في ضوء عدم التوصل لأرضية في الملفات المشتركة بين الجانبين، في ظل التباعد في الرؤى، رغم أن السوداني -وفق العديد من التقديرات العراقية- لا يسعى إلى الصدام مع الولايات المتحدة، بل يسعى، كالعديد من أسلافه، إلى إدارة التوازنات ما بين طهران وواشنطن في العراق، لكن مدى قدرة كل رئيس حكومة على هذه الإدارة يتوقف على طبيعة العلاقة ما بين الدولتين، وبما أن العلاقة ساخنة في المرحلة الحالية بسبب توجيه طهران اتهامات لواشنطن بدعم الاحتجاجات الحالية في الأولى، فضلاً عن تعثر مسار المفاوضات النووية؛ فإن الحكومة الحالية ستدير علاقة متوترة بين الطرفين.

وكدلالة على ذلك، يمكن النظر إلى عملية اغتيال مدرس أمريكي في العراق في 8 نوفمبر الجاري، واتهام مصادر أمريكية –غير رسمية- إيران بالوقوف وراء العملية عبر أذرعها في العراق، وتوقع الأوساط العراقية على نحو ما أشارت إليه صحيفة “المدى” المحلية حدوث المزيد من عمليات الاغتيال على هذا النحو، وهو ما يشير إلى مسار أكثر سخونة في التصعيد بين الجانبين على الساحة العراقية.

 ومن المتصور أن هذا السياق سيدفع السوداني إلى التركيز على الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، سواء بدافع من قوى سياسية مدعومة من إيران، أو كموقف سياسي للحكومة التي تحتاج إلى تهدئة الساحة العراقية بعد فترة من التوتر السياسي لا تزال بعض آثاره قائمة.

هناك مؤشر آخر يتعلق بانعكاس الصدام ما بين طهران وواشنطن على المستوى الإقليمي بشكل عام أكثر وضوحاً في سياسات المرحلة المقبلة بين الجانبين، وهو أيضاً مسار متوتر للغاية، فالولايات المتحدة بصدد إعادة هيكلة قواتها العسكرية في المنطقة بشكل عام، وهو ما يظهر من طبيعة الانتشار في إطار ترتيبات القيادة الوسطى الأمريكية في الشرق الأوسط وليس الخليج فقط.

وفي هذا السياق، فإن الترتيبات السياسية أيضاً تلعب دوراً رئيسياً جنباً إلى جنب مع الترتيبات الأمنية؛ إذ يعتقد أن موقف العراق المعارض لاتفاقيات السلام مع إسرائيل سيشكل عائقاً في جانب من تلك الترتيبات. وبالتبعية تُدرك طهران أن الهدف من تلك الترتيبات هو تقليص نفوذها الإقليمي، الذي تمثل العراق ركناً مفصلياً فيه، فمن خلال العراق تعبر الأسلحة والمليشيات الإيرانية إلى سوريا، كما تقدم الفصائل العراقية الدعم للمليشيا الحوثية في اليمن، وفي بعض الأحيان أشارت الولايات المتحدة رسمياً إلى أن طهران استغلت العراق كساحة لتهديد دول الجوار.

توتر مستمر

إجمالاً، يبدو أن المشهد التالي في العراق لن يكون مستقراً من زاوية العلاقة ما بين واشنطن وطهران، وهو ما سينعكس بطبيعة الحال على التفاعلات السياسية، رغم محاولة السوداني انتهاج سياسة معتدلة؛ إلا أن المعركة بين الطرفين في عهده بدأت مبكراً، وعليه يُرجَّح أن فائض هذه العلاقة بشكلها الحالي المتوتر سيحتل قدراً من أجندة حكومة السوداني السياسية، وستكون لها تبعاتها على المشهد العراقي ككل، وسينتقل هذا التوتر إلى الساحة السياسية المحلية، كما ستظهر تداعياته في المشهد الأمني أيضاً، من حيث إن واشنطن ستجد الكثير من الذرائع للبقاء في العراق، ليس فقط للحرب على الإرهاب وإنما لحماية مواطنيها ومصالحها، بعد حادثة مقتل أحد مواطنيها، وستلقي بالمسئولية على إيران في افتعال هذا التوتر، بينما ستسرع الأخيرة من الرغبة في الانتقام بما تمتلكه من أدوات ووكلاء في العراق، بغض النظر عن مدى تقاربها مع الحكومة العراقية من عدمه.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن إصرار الولايات المتحدة على البقاء العسكري في العراق، سيظل مرادفاً للسياسة الخارجية وما تنطوي عليه طبيعة وأهداف المصالح الأمريكية في المنطقة كأولوية، بغض النظر عن الصيغ السياسية، أو توصيف طبيعة تواجدها العسكري.

وفي الوقت ذاته، لا يمكن التقليل من دورها في مكافحة الإرهاب، لكن يُحمّلها مراقبون محليون مسئولية عدم القدرة على تأهيل العراق بعد نحو عقدين على الغزو الأمريكي في التصدي لمثل هذه التهديدات من دون الحاجة لدعم خارجي، وهو ما تُشير إليه التقارير الرسمية الأمريكية من أنه لا يمكن الاستغناء عن الدعم الأمريكي في التدريبات والدعم الاستخباري والعمليات الجوية، وأن قوات الأمن العراقية النظامية ليس في استطاعتها بمفردها القيام بهذه المهام، وهو ما سمح لمنافستها إيران ببناء هيكل أمني موازٍ.

وبالتبعية فإن إنهاء التواجد الأمريكي سيُخلّ بهذه التوازنات السياسية والأمنية التي أفرزتها السياسة الأمريكية منذ غزوها للعراق عام 2003، لكن ما يُخشى منه في المرحلة الحالية في سياق سيناريو التوتر الحالي هو استمرار التصعيد الذي تدفع العراق كلفته، ويُبقي عليها في دائرة الفوضى كلما سعت إلى الخروج منها.