رسائل طمأنة:
مغزى التحركات الأمريكية الجديدة في المنطقة

رسائل طمأنة:

مغزى التحركات الأمريكية الجديدة في المنطقة



وجّهت الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية إزاء العديد من الملفات الرئيسية على الساحتين الإقليمية والدولية خلال الفترة الأخيرة رسائل متتالية أثارت قلقاً واضحاً لدى بعض الأطراف الحليفة لها في المنطقة، لاسيما بعد أن توقعت اتجاهات مختلفة أن تكون المنطقة هى الخيار التالي لإدارة الرئيس جو بايدن لسحب القوات الأمريكية منها، وتقليص مساحة الانخراط في أزماتها، وخاصة بعد النجاح الذي حققته واشنطن- بدعم من حلفائها- في الحرب ضد تنظيم “داعش”، وتحول التركيز الأمريكي للتعامل مع القضايا الداخلية، والتهديد الذي تفرضه روسيا والصين على المصالح والأمن القومي الأمريكي.

وقد بدا أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تدرك طبيعة هذه المخاوف، على نحو دفعها خلال الفترة الأخيرة إلى محاولة استيعابها، سواء من خلال اتخاذ إجراءات تنفيذية على الأرض مُناقِضة للترجيحات التي تشير إلى احتمال الانسحاب الأمريكي من المنطقة، أو عبر العمل على مواصلة التنسيق والتعاون مع القوى الحليفة في المنطقة.

مؤشرات مختلفة

فرض الانسحاب الأمريكي من أفغانستان معطيات جديدة على الأرض، لم تنحصر فقط في التطورات الميدانية التي طرأت على الساحة الأفغانية لاسيما ما يتعلق بسيطرة حركة “طالبان” على السلطة، وإنما امتدت أيضاً إلى مناطق وأقاليم أخرى حرصت القوى الرئيسية فيها على متابعة وتقييم تداعيات ما حدث على أمنها ومصالحها.

ومن هنا، بدأت الإدارة الأمريكية في التحرك بهدف طمأنة الحلفاء من أن ما حدث لا يعني تراجع واشنطن عن التزاماتها، وأنها ما زالت معنية بمواجهة التحديات التي تتعرض لها مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة. وقد بدا ذلك جلياً خلال الفترة الأخيرة في مؤشرات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تأكيد الالتزام بالانخراط في تفاعلات المنطقة: وقد انعكس ذلك في التصريحات التي أدلى بها جوى هود مساعد وزير الخارجية الأمريكي بالإنابة لشئون الشرق الأدنى، خلال الحوار الذي أجرته معه صحيفة “الشرق الأوسط”، في 7 سبتمبر الجاري، حيث قال في هذا السياق: “التزامنا تجاه المنطقة طويل الأمد وعميق. التزاماتنا الأمنية واضحة وقوية”، مضيفاً أن “موقف الولايات المتحدة الأمريكية في كثير من قضايا المنطقة العربية يستند في المقام الأول إلى مصالحها ودعم الشركاء والحلفاء”.

2- نشر قوة عسكرية جديدة لردع إيران: في الوقت الذي تتحدث فيه تقارير أمريكية عن إعادة انتشار القوات الأمريكية الموجودة على أراضي عدد من الدول العربية، وتوجيهها إلى آسيا، في إطار الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة الصعود الصيني، وسحب الولايات المتحدة الأمريكية منظومات دفاع من بعض المناطق، أعلن الأسطول الخامس الأمريكي، في 8 سبتمبر الجاري، إطلاق واشنطن قوة جديدة في المنطقة تضم طائرات من دون طيار محمولة جواً وبحراً وتحت الماء، وغيرها من الوسائل التي لا تحتاج إلى عنصر بشري، والتي يمكن التحكم فيها عن بُعد، مشيراً إلى أن ذلك يهدف إلى ردع إيران وسط تصاعد حدة التوترات معها، ولاسيما بعد الاتهامات التي وجهت لها بالوقوف وراء هجوم بطائرات من دون طيار على نقالة نفط مرتبطة بإسرائيل في ٢٩ يوليو الماضي، بالتوازي مع تعثر المفاوضات التي تجري بين إيران ومجموعة “4+1”- والتي تشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر- في العاصمة النمساوية فيينا بشأن إحياء الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥، والذي انسحبت منه الإدارة الأمريكية السابقة في 8 مايو ٢٠١٨، على نحو دفع إيران إلى تخفيض مستوى التزاماتها فيه.

3- تعزيز التوافق مع إسرائيل حول مفاوضات فيينا: أبدى الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال لقائه الأول برئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في البيت الأبيض في ٢٧ أغسطس الفائت، توافقاً نسبياً مع الرؤية الإسرائيلية التي تتبنى تحفظات على إدارة المفاوضات مع إيران في فيينا، مشيراً إلى أن إدارته مستعدة لاعتماد “خيارات أخرى” إذا فشلت الدبلوماسية في كبح الطموحات النووية الإيرانية. وقد أشار بيان للبيت الأبيض في أعقاب اللقاء بين بايدن وبينيت إلى أنهما استعرضا الخطوات اللازمة لردع واحتواء سلوك إيران الإقليمي واتفقا على الالتزام بالعمل بشكل بناء وتعميق التعاون لمعالجة جميع جوانب أمن إسرائيل ضد إيران والتهديدات الأخرى. وكان لافتاً أن واشنطن حرصت على ضم دان شابيرو سفيرها الأسبق لدى تل أبيب إلى فريق المبعوث الأمريكي لإيران روبرت مالي، حيث سيكون مسئولاً عن الاتصالات مع إسرائيل، في إشارة إلى سعيها لاستيعاب مخاوف الأخيرة إزاء المعطيات التي يمكن أن تنتجها أى صفقة محتملة مع إيران في فيينا.

4- فرض المزيد من العقوبات على طهران: بعد أن بدأت الإدارة الأمريكية تدرك أن محاولاتها تخفيف العقوبات المفروضة على إيران لن تدفع الأخيرة إلى إبداء مرونة أكبر في المفاوضات يمكن أن تساعد في الوصول إلى صفقة جديدة في فيينا، بدأت في رفع مستوى هذه العقوبات مجدداً، حيث أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية، في 3 سبتمبر الجاري، فرض عقوبات على شبكة استخبارات إيرانية متورطة في عمليات ملاحقة لمعارضين إيرانيين في الخارج، ومنها محاولة خطف الناشطة الأمريكية من أصل إيران مسيح علي نجاد.

5- زيارات متعددة للمسئولين الأمريكيين للمنطقة: شهدت الفترة التي تلت الانسحاب الأمريكي من أفغانستان زيارات متعدد لوزيرى الخارجية، أنتوني بلينكن، والدفاع، لويد أوستين، لعدد من حلفاء واشنطن في المنطقة، بالتوازي مع إجراء اتصالات بين المسئولين الأمريكيين ونظرائهم في المنطقة، لتعزيز الشراكات الدفاعية بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، والتأكيد على الالتزام الأمريكي بأمن واستقرار المنطقة، وبحث التهديدات المشتركة.

6- استمرار الوجود العسكري الأمريكي في سوريا: بينما حرصت إدارة الرئيس جو بايدن على سحب القوات الأمريكية من أفغانستان والتحول إلى دور استشاري في العراق بعد سحب القوات الأمريكية منها بنهاية العام الجاري، لم تشهد العمليات العسكرية الأمريكية في سوريا أى تغييرات، مع توقع مسئولين أمريكيين بقاء ما يقرب من ٩٠٠ جندي في سوريا لمواصلة الدعم وتقديم الاستشارات لميليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تقاتل تنظيم “داعش” الإرهابي.

وقد كان لافتاً أن الإبقاء على الوجود الأمريكي في سوريا كان محور اتصالات بين واشنطن وقادة ميليشيا “قسد” في الفترة الأخيرة، حيث أشارت إلهام أحمد الرئيسة التنفيذية لـ”مجلس سوريا الديمقراطية”، في 4 سبتمبر الجاري، إلى أنها أبلغت مساعد وزير الخارجية الأمريكي بالإنابة لشئون الشرق الأدنى جوى هود، بأن “بقاء القوات الأمريكية يمثل ضمانة أساسية للوصول إلى تفاهمات سياسية”. إن ما سبق في مجمله يطرح دلالة مهمة تتمثل في أن استنساخ “النموذج” الأفغاني في المنطقة، لاسيما في دول الأزمات، يواجه إشكاليات عديدة. ففضلاً عن أن ذلك يمكن أن يزيد من مخاطر اتساع نطاق نشاط التنظيمات الإرهابية، فإنه سيوفر فرصة لخصوم واشنطن للتحرك من أجل ملء الفراغ الناتج عن أى خطوة قد تتخذها الأخيرة في هذا الصدد.