يمضي عام 2022 ونستقبل عام 2023 في عالمنا العربي من دون أوهام، وقلة ضئيلة جداً من الأحلام.
مؤلم أن نكون في قلب الجغرافيا… ولكن على هامش التاريخ. ومؤسف أن نبالغ في تقدير قوتنا وقدرتنا على التأثير في الأحداث. وهنا أزعم أن علينا كعرب، في ضوء حصيلة عام 2022 التوجه إلى التفكير الجاد لمواجهة التحديات المحيطة بنا، ناهيك عن مؤشرات الخطر التي تتوالد داخل مجتمعاتنا الشابة.
عالمياً، سقطت أوهام كثيرة تتصل بنظرتنا المُعجبة بمتانة «المؤسسات» الديمقراطية الغربية، وقدرتها الدائمة على استيعاب الصدمات وتصحيح المسارات. كذلك سقطت الفرضيات القائلة بأن لدى القوى الكبرى الحد الأدنى من الحكمة الذي يحول دون إقدامها على مغامرات من السهل التورط فيها لكن من الصعب الخروج منها.
بريطانيا، مثلاً، عاشت خلال الأشهر الأخيرة أقصر حكم لحكومة عجزت عن إكمال فترة شهرين. وكان سقوط رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس أكبر من مجرد فشل لسياسية شعبوية الممارسة و«دوغماتية» التوجهات، بل جاء فضحاً لهشاشة القناعات الصِدامية التي تولدت في البيئة السياسية البريطانية خلال أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي.
وفرنسا، أيضاً، أكدت في أبريل (نيسان) الماضي أن رئيساً بلا قناعات فكرية ولا قاعدة حزبية… يستطيع في عالم اليوم أن يفوز مجدداً بالسلطة، ويحكم عبر مساومات وصفقات وتخويف من المجهول… و«المعلوم» الذي هو غول العنصرية.
وحتى في الولايات المتحدة، استطاعت إدارة ديمقراطية متضعضعة أن تتجاوز في استحقاق الانتخابات النصفية الحد الأدنى من الخسائر، واحتفظت بأحد مجلسي الكونغرس، غير أن الحزبين الكبيرين، الديمقراطي والجمهوري، مأزومان… ويفاقم وضعيهما بروز التيارات الهامشية المتطرفة داخل كل منهما، أمام ناخب تائهٍ ومرتبك وضعيف الذاكرة واستنسابي الخيارات… تجره من اليسار مثاليات خطيرة في سذاجتها وراديكاليتها ولا عقلانيتها، وتسحبه من اليمين أصوليات دينية وعرقية متعصبة تستهزئ بالديمقراطية ولا تقيم وزناً للدولة.
في المقابل، شرقاً، أمامنا العملاقان الشيوعيان السابقان روسيا والصين،
العملاقان اللذان مثّلا طويلاً أمام «عالمنا الثالث» خيار «الشرق» مقابل «الغرب»، لم يعُد فيهما من الإرث الشيوعي، فعلياً، سوى ثلاث: أحادية السلطة وضعف التعددية ومحسومية الانتخابات.
وإذا كانت التجربة الأوكرانية قد غدت العلامة المميزة لـ«الثقافة السياسية» الروسية في عهد فلاديمير بوتين بعد «اختباراته» الدامية في القوقاز وسوريا، فإن الصين عادت جدياً مع شي جينبينغ إلى حقبة «الزعيم القوي» غير المنازَع. كذلك، إذا كانت جسور تفاهمات موسكو وأنابيب غازها المعطلة قد أيقظت عند عشرات الملايين في أوروبا كل أشباح الماضي، فإن «حلف المصلحة» بين موسكو وبكين يستحق من الغرب المنقسم على نفسه، والخائف من «غرباء» المهاجرين والأجانب، أن يدرس بدقة تهديدات العقود المقبلة استراتيجياً واقتصادياً وتكنولوجياً وديموغرافياً.
أما على مستوى منطقة الشرق الأوسط فإن ما حمله عام 2022 ويسلمه في هذه اللحظات إلى عام 2023 مهم جداً في مضمونه وأبعاده، مع أنه لا يجوز أن يفاجئ أولئك الذين يقرأون التاريخ ويتعلمون منه. مثلاً، لم تكن مفاجأة عودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل على رأس حكومة هي الأكثر تطرفاً يمينياً وعدوانياً منذ تأسيس إسرائيل عام 1948. لقد كانت هذه العودة طبيعية، وتتحسب لها قوى المعارضة الإسرائيلية منذ بعض الوقت. أكثر من هذا، لم يحمل «ائتلاف بنيت – لبيد» المعارض المصطنع أي رؤية مستقبلية جدية مطروحة لا للإسرائيليين ولا للفلسطينيين. وفي المقابل، نجد الشارع الفلسطيني أكثر انقساماً وتفتتاً من أي وقت مضى سواء داخل «حدود 1948» أو في دويلتي «الضفة» العربية أو «غزة» الإيرانية.
أيضاً، لا غرابة في أن تواصل قيادة إيران مشروعها «الاحتلالي» مستفيدة من كل الظروف المكرسة لخدمته. إذ لا وجود حقاً لاستراتيجية عربية للتصدي لهذا المشروع بعدما افترس حتى الآن أربع دول عربية. وثانياً، تدرك طهران أن لا جدية غربية في محاسبتها، لكنها في المقابل تعزز علاقاتها مع بكين وموسكو من أجل رفع تكلفة مواجهتها… وهذا إذا كانت هناك أصلاً رغبة في المواجهة. وثالثاً، تستفيد طهران أكثر فأكثر كلما رجحت كفة التطرف الإسرائيلي، لأنها إذ ذاك ستطرح نفسها سنداً للعرب لا متآمراً عليهم، ولعل هذا الأمر في صميم اعتبارات «التفاهم التعايشي الضمني» بين طهران وتل أبيب.
وأخيراً لا آخراً، أزعم أن بعض المشككين كانوا قد أسقطوا منذ بعض الوقت الرهان على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. هؤلاء – ومنهم من يتذكر دروس التاريخ ويفهم المعادلات الاستراتيجية في المنطقة – أدركوا أن وراء دور أنقرة عقلية سياسي طموح وحزبي شعبوي، وليس قيادة حكيمة تفكر بصورة منهجية وتتحرك وفق رؤية وأولويات استراتيجية، فافتعال عداء مع مصر لأسباب مصرية داخلية جاء دليلاً على أن إردوغان لا يأخذ في الاعتبار حجمي الدولتين المسلمتين السنيتين الأكبر سكاناً في الشرق الأوسط. والأسوأ أن هذا حدث في عز الهجمة الإيرانية على المنطقة.
بعدها جاءت الكارثة الكبرى، وهي موقف أنقرة من الانتفاضة السورية. إذ لم يكتفِ إردوغان بإغداق الوعود بدعم الانتفاضة، بل عمل أيضاً على إعطائها صبغة مذهبية وحزبية شجعت بعض الجهات – في طليعتها إيران ودول غربية عديدة – على «شيطنتها». ثم أخذ يفرض عليها قيادات محسوبة عليه وعلى تياره مقابل تهميش الوطنيين المستقلين غير المراهنين لأي طرف خارجي.
إغداق الوعود انتهى مع الخوف من ردة فعل موسكو إثر إسقاط تركيا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 طائرة عسكرية روسية فوق الحدود السورية التركية، ثم تسارع إيقاع الإذعان، وصولاً إلى «الانقلاب» على الانتفاضة السورية… مع انخراط أنقرة في «مسار أستانة» بالشراكة مع حليفي نظام الأسد الأساسيين… طهران وموسكو!
اليوم، قبل أشهر قليلة من الانتخابات التركية، واسترضاءً لشارع «قومي» تركي محرض ضد وجود اللاجئين السوريين، وتحت ذريعة ضرب «الانفصاليين الأكراد»… قررت أنقرة التطبيع فعلياً وعلنياً مع نظام الأسد، المدعوم إيرانياً وروسياً والمَرضي عنه إسرائيلياً. وهكذا، اتضح أن الهدف الأهم الذي يجمع بين غلاة التطرف القومي التركي وغلاة التطرف القومي الإيراني هو عداؤهم المشترك لوحدة الأكراد وقوة العرب.
هذا الدرس كان الأخير من حصيلة 2022، وإن كانت مفاعيله وتداعياته ستمتد ليس إلى العام الجديد فحسب… بل لسنين عديدة آتية أيضاً.
نقلا عن الشرق الأوسط