خرائط الطريق:
معارك ما بعد الانتخابات في حالات الانتقال السياسي

خرائط الطريق:

معارك ما بعد الانتخابات في حالات الانتقال السياسي



لم تعد الانتخابات تمثل خطوة العبور السَلِس في بعض عمليات الانتقال السياسي على نحو ما تشكل في ضوء الكثير من الخبرات السابقة في هذا السياق، حيث كان يُعوَّل عليها كتتمة لعملية الانتقال السياسي وكفاصل ما بين مرحلة التهدئة ما بعد الصراع ومرحلة الاستقرار. إذ ربما أصبحت الانتخابات من منظور أطراف الصراع هى مجرد وسيلة لإعادة تدوير الحصص السياسية مرة أخرى، وإن لم تصل الأطراف إلى غاياتها تتجه مرة أخرى إلى إعادة إنتاج الصراع. وبالتبعية تحولت المراحل الانتقالية إلى ما يشبه “استراحة محاربين” تعيد فيها الأطراف تعبئة أدوات الصراع لفرض موازين قوى جديدة في المعركة التالية في مرحلة ما بعد الانتخابات إن لم تحقق كوسيلة غاية كل طرف من أطراف الصراع.

اللافت للنظر في هذا السياق، أن الإطار الإجرائي في عملية الانتخابات أصبح أفضل حالاً مما كان عليه في السابق، ويمكن الاستشهاد بالانتخابات العراقية التي أجريت في 10 أكتوبر الحالي كنموذج متميز لإجراء العملية الانتخابية، بأقل قدر من السلبيات الممكنة ودون حظر تجوال للمرة الأولى، وربما هناك اتجاه للنموذج ذاته في الحالة الليبية إذا ما أجريت الانتخابات في موعدها في 24 ديسمبر القادم.

لكن القاسم المشترك، والذي ظهر في الحالة العراقية، ويلوح في الأفق في الحالة الليبية، هو المخاوف التي تلي الإعلان عن نتائج الانتخابات والقبول بما تفرزه هذه العملية. فقد بدأ التوتر في الحالة العراقية، على إثر هزيمة قائمة “الفتح”، وبسببها أشهرت الفصائل المنضوية تحت مظلة “الفتح” سلاح “الحشد” سريعاً بدعوى “استعادة الحق” الذي أضاعته الانتخابات التي كان يشهد لها بالنزاهة في اليوم السابق، لتتحول من منظور هذه الفصائل إلى “انتخابات مزورة”. كذلك دعا رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي إلى “تعديل النتائج” قبل صباح اليوم التالي حتى لا تتوتر الأوضاع، بينما يتم التشديد حالياً في ليبيا على ضرورة القبول بنتائج الانتخابات أياً تكن.

إشكاليات عديدة

تستدعي عملية تحليل هذا المشهد سريعاً الإشارة إلى عدم نضوج التجربة الديمقراطية عموماً، أو صعوبة إنضاجها في ظل طبيعة خريطة القوى السياسية في دول الصراعات والأزمات. لكن في الواقع، يتجاوز الأمر هذه الفرضية المؤكدة، إلى العديد من الإشكاليات، التي يتمثل أبرزها في:

1- هندسة عمليات الانتقال السياسي: إذ تتعامل مع حالة ظرفية وليس مع جذور الصراع أو الأزمة. فعلى سبيل المثال، تم التعاطي في الحالتين العراقية والليبية على أساس المشهد الأخير في الأزمة العراقية وهو “ثورة تشرين”، والمشهد الأخير أيضاً في الصراع الليبي وهو معركة طرابلس في إبريل 2019، فى حين أن هذه المشاهد هى مجرد انعكاس للصراع الذي يتضمن أبعاداً أخرى، منها ما يرتبط بأبعاد سياسية مثل عامل التدخلات الخارجية، أو صراع اجتماعي بين مكونات مختلفة، أو صراع جيلي في الأزمات الممتدة وغيرها من تلك الأنماط.

2- إعادة إنتاج الخريطة السياسية القائمة: فأطراف الصراع هم أنفسهم أطراف التسوية السياسية، وهم أنفسهم أطراف المؤسسات الشريكة في تنفيذ مخرجات خريطة الطريق السياسية، وهم أنفسهم الطامحون إلى الفوز بمشهد الانتخابات، وبالتالى لا توجد مدخلات جديدة في العملية السياسية. ففي الحالة العراقية، لم يتصدر “ثوار تشرين” المشهد الانتخابي وهو أمر كان متوقعاً، فقط اختلفت الأوزان على القوائم. وفي الحالة الليبية، فإن أطراف الصراع بأشخاصهم أيضاً هم أطراف العملية الانتخابية، بالإضافة إلى دخول أطراف أخرى سيشكل انخراطها قوة مضافة للصراع وليس العكس، على سبيل المثال ظهور سيف الإسلام القذافي، أو احتمالات ترشح رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة رغم الاتفاق على أن أطراف إدارة المرحلة الانتقالية لا يحق لهم الترشح. ومن الأهمية بمكان في هذا السياق، الإشارة إلى أنه باتت تتشكل خبرة في الصراعات والأزمات الإقليمية تعكس إشكالية، وهى أن “أمراء الحرب” و”صقور السياسة” يفترض أن يتحولوا في مرحلة ما بعد عملية الانتقال السياسي إلى “قيادات نخبوية” و”حمائم سلام”.

3- التباين حول أدوار المؤسسات الحالية: تنظر أطراف الأزمات إلى الحكومات الانتقالية، على سبيل المثال، على أنها مجرد أداة تنفيذية للجانب الإجرائي في العملية السياسية وتحديداً الانتخابات بشكل حصري. ففي العراق، هدد زعيم مليشيا “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي الحكومة بالخروج عن الالتزام بهذا السياق. وفي ليبيا، حوّل البرلمان الحكومة إلى “تسيير أعمال”. وتُسقِط هذه الأطراف من حساباتها أبعاداً أخرى، لعل أبرزها كيف يمكن تهيئة المجتمعات المتضررة من الصراعات. وهناك إشكالية أخرى تتعلق بصدام المؤسسات المعنية بالجوانب التنفيذية لخريطة الطريق، ولعل الصدام بين البرلمان الليبي والمجلس الأعلى للدولة دليل بارز على دور المؤسسات الشريكة، فالأول أصدر قوانين الانتخابات، والأخير اعتبرها باطلة واتهم الأول بالانحياز لصالح طرف، فيما رئاسة المجلس الأعلى متهمة بالأساس بتنفيذ أجندة “الإسلام السياسي”.

4- عدم كفاية فترة تنفيذ الترتيبات السياسية: بدأ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي مهامه رسمياً في مايو 2020. وفي ليبيا، تولى عبد الحميد الدبيبة مقاليد منصبه في مارس 2021. وبالتالي لا يمكن تغيير الأوضاع السياسية خلال هذه المرحلة. وكما سلفت الإشارة، تتحول إلى مجرد فرصة لإعادة التعبئة الأمنية والعسكرية مرة أخرى. ففي ليبيا حتى الآن لم يتم الأمر الخاص بالقاعدة الدستورية، ولم يعد هناك غير مسار وحيد هو استمرار العمل بالإعلان الدستوري، وهو مدخل آخر للخلاف القانوني والسياسي سيفتح الباب للطعون كمدخل للصراع مرة أخرى على نحو ما جرى في أول وآخر انتخابات عام 2012 عندما صدر حكم قضائي حوّل المشهد سريعاً إلى حرب أهلية.

5- استمرار معضلة التدخلات الخارجية: وهو عامل شديد الأهمية، ورغم أن الأطراف الإقليمية والدولية تؤكد على أنها بمنأى عن التدخل، لكن عملياً يبدو الواقع مغايراً تماماً، فبمجرد إغلاق الصناديق في العراق، كان قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني اسماعيل قاآني في بغداد، وهناك تسريبات بشأن وجود “فيتو” للمرة الثانية على مقتدى الصدر في التحالف مع الأكراد أو السنة، وهو ما حدث في الانتخابات السابقة، وكان الصدر متقدماً أيضاً لكنه لم يشكل الحكومة، إلا أن رسائل الصدر الضمنية في “خطاب النصر” في الانتخابات ربما تقول أنه لن يقبل بما قَبِل به في السابق. وفي الحالة الليبية، تبدو التدخلات الخارجية أعمق مما عليه الأمر في العراق. 

6- بقاء أدوات الصراع في المشهد: ففي ليبيا، هناك حديث كثير حول ملف المرتزقة، لكن هناك فعل أقل بتعبير وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، بالإضافة إلى دور الفصائل المسلحة، واستمرار الانقسام العسكري، وعدم توقف تدفقات الأسلحة، وبالتالي هناك استراحة على الجبهات. ولا يختلف الأمر في العراق، فالفصائل تملك السلاح، وتعزز قدراتها باتجاه الاستعداد لمعارك تالية. 

تراجع التأثير

في الأخير، من المتصور أن عملية إجراء الانتخابات في دول الصراعات والأزمات لم تعد بمثابة عتبة الانتقال ما بين مرحلة الصراع والتصعيد إلى مرحلة الاستقرار. ففي واقع الأمر، الأطراف لديها الاستعداد للاحتكام إلى السلاح سريعاً، والأصعب في هذا المشهد هو ارتفاع مستوى العنف في المعارك، وفي العراق ربما يخشى أن تكون على أرضية الطائفة الواحدة هذه المرة، أما في ليبيا، فالمتوقع في حال اندلاع معركة جديدة بعد الانتخابات أن تكون أسوأ من أي معركة سابقة.