الاتجاه غرباً:
مظاهر وأسباب التوجه الصيني نحو السواحل الإفريقية على الأطلنطي

الاتجاه غرباً:

مظاهر وأسباب التوجه الصيني نحو السواحل الإفريقية على الأطلنطي



في نهاية عام 2021، أشارت العديد من التقارير الواردة من مصادر مختلفة إلى اعتزام الصين تشييد قاعدة عسكرية في غينيا الاستوائية، الدولة الصغيرة الواقعة في أقصى غرب القارة الإفريقية والتي ينقسم إقليمها بين شطرين بري وجزري. وعلى الرغم من أن العديد من المصادر الأمريكية تحديداً قللت من فرص ظهور هذا المتغير على أرض الواقع في المرحلة الحالية، إلا أن الأمر قد أثار الكثير من التساؤلات بشأن العديد من المتغيرات المتوقع بروزها في الفترة القادمة كتكرار الصين تجربتها الناجحة في جيبوتي بتأسيس قاعدة عسكرية جديدة في دولة إفريقية أخرى، وكذلك عمل الصين على إعادة ضبط خريطة انتشارها الاقتصادي والعسكري في إفريقيا على نحو أكثر توازناً، واستغلال أرصدتها الكبيرة من النفوذ والتأثير في القارة الإفريقية لتعزيز وضعها التنافسي العالمي في وقت تتنامى فيه الضغوط الأمريكية بصورة غير مسبوقة عزز منها تفجر الحرب الروسية-الأوكرانية والتي بدأت في إعادة تشكيل ملامح النظام الدولي. بهذا المنطق، تتجلى أهمية رصد المظاهر المتعددة لتنامي الحضور الصيني على السواحل الغربية الإفريقية، ومحاولة تفسير الدوافع الصينية لهذا التوجه في الفترة الأخيرة، وذلك من أجل قراءة مستقبل هذه الظاهرة وانعكاساتها المحتملة على الدول الإفريقية.

أبعاد مختلفة

يمتد الحضور الصيني في دول الساحل الغربي للقارة الإفريقية لعقود، لكن السنوات الأخيرة شهدت تطورات ملموسة على مستوى تعدد أبعاد هذا الحضور، وتنامي كثافة التفاعلات بين الصين والدول الإفريقية المطلة على الأطلنطي بصورة كبيرة. ويمكن تتبع أبرز مظاهر تنامي الحضور الصيني في غرب القارة الإفريقية وفق عدد من المؤشرات التي تشمل:

1- تطوير التعاون العسكري والأمني: تضمنت خطة العمل التنفيذية التي أقرها منتدى التعاون الصيني-الإفريقي (فوكاك) خلال انعقاده في الصين عام 2018 قسماً خاصاً بالمساعدات الصينية العسكرية والأمنية والمساعدات المخصصة لدعم جهود الدول الإفريقية في مكافحة الإرهاب، في إشارة واضحة إلى التغيّر الجذري في توجهات بكين بشأن القارة والتي باتت تضع الأبعاد الأمنية والعسكرية في مرتبة متقدمة من حساباتها. وفي غرب إفريقيا، تؤسس الصين علاقات تعاونية في المجالات العسكرية والأمنية مع عدد من الدول الرئيسية في الإقليم، فقد عينت أول ملحق عسكري في سفارتها في ياوندي في عام 2013، كما تم تسليم عشر شحنات من الأسلحة والعتاد العسكري الصيني للكاميرون بين عامي 2012 و2014 في بداية لمسار أخذ في التصاعد تضمن تسليم القوات المسلحة الكاميرونية قذائف أرض-جو وعدداً كبيراً من المركبات المدرعة الناقلة للجنود والرادارات وأجهزة الرصد. وقد ساعدت هذه التجهيزات العسكرية القوات المسلحة الكاميرونية في التصدي لتمدد التنظيمات الإرهابية في شمال البلاد، ولتصاعد نشاط الحركة الانفصالية في الجنوب الغربي. كذلك تم رصد حضور خبراء صينيين في أعمال تطوير القاعدة العسكرية البحرية في دوالا، كجزء من تنفيذ اتفاقية التعاون الدفاعي الموقعة بين الجانبين عام 2018، والتي توفر للكاميرون تجهيزات عسكرية صينية بقيمة ثمانية ملايين دولار. وفي عام 2019، وقّعت الصين مذكرة تعاون في المجال العسكري مع نيجيريا أقرت تقديم الأولى مساعدات عسكرية للثانية بقيمة خمسين مليون يوان لدعم قواتها المسلحة في مكافحة الإرهاب. وفي عام 2018، استقبل رئيس الجابون علي بونجو أونديمبا وزير الدفع الصيني في زيارة شهدت توافقاً بين الجانبين على تطوير التعاون في المجالات الدفاعية.

2- تبني سياسة تطوير الموانئ: أصبحت الصين اللاعب الأبرز في مجال الموانئ في القارة الإفريقية. وعلى الساحل الغربي للقارة المطل على الأطلنطي، تتمتع الصين بنفوذ كبير عبر الموانئ التجارية يبدأ بموريتانيا ويمتد ليشمل كلاً من غينيا وسيراليون وساحل العاج وغانا وتوجو ونيجيريا والكاميرون وأنجولا. وتتعدد الأدوار التي تلعبها الصين في موانئ الساحل الغربي للقارة الإفريقية بين البناء، والتمويل، والتشغيل، أو الجمع بين هذه الأدوار جميعاً لتقليص أي دور محتمل لأي منافس آخر في هذا المجال الاستراتيجي. ويحمل حضور الصين في مجال الموانئ أبعاداً تتعلق بدعم المكانة الاقتصادية للصين حول العالم بما يتجاوز القارة الإفريقية بكثير.

3- رفع مستوى التبادل التجاري: وفق بيانات عام 2019 الخاصة بآخر الأعوام السابقة على الأوضاع الطارئة المرتبطة بتفشي فيروس كورونا عالمياً، احتلت دول غرب إفريقيا المرتبة الأولى قارياً في حجم التبادل التجاري مع الصين. فعلى جانب الواردات الصينية من إفريقيا، جاءت أنجولا في المرتبة الأولى بحصة بلغت 26% من نصيب القارة الإفريقية، تلتها جمهورية الكونجو بنحو 7%، ثم غانا ونيجيريا بقرابة 3,5% لكل منهما، ثم غينيا بما بلغ 2,7%، ولم يظهر أي استثناء على هذه القائمة سوى جنوب إفريقيا التي احتلت المركز الثاني بنسبة بلغت 21%. أما على مستوى الصادرات الصينية للقارة الإفريقية، فقد تساوت نيجيريا مع جنوب إفريقيا في المرتبة الأولى بحصة بلغت 14% من إجمالي الصادرات بقيمة إجمالية بلغت نحو 15 مليار دولار.

4- زيادة واردات النفط الصينية: في ظل معاناة الصين تقليدياً من محدودية مصادر الطاقة المتاحة داخلياً، فإنها تعتمد على واردات النفط الخارجية بصورة أساسية لتحقيق نموها الاقتصادي. ولأسباب استراتيجية متعددة، تحرص الصين على تجنب الاعتماد المكثف على مصدر بعينه. وفي قائمة الدول الخمس عشرة الأكثر تصديراً للنفط للصين، تظهر ثلاث دول من غرب إفريقيا المطلة على المحيط الأطلنطي، وهي أنجولا في المرتبة الرابعة بصادرات بلغت قيمتها نحو 14 مليار دولار شكلت 8% من إجمالي الواردات الصينية من النفط، ثم جمهورية الكونجو في المرتبة الثالثة عشرة بصادرات نفطية قدرت قيمتها بنحو ثلاثة مليارات دولار شكلت 1,7% من إجمالي الواردات النفطية الصينية، ثم الجابون بصادرات بلغت قيمتها ملياري دولار شكلت نحو 1,2% من إجمالي الواردات الصينية من النفط.

دوافع الانتشار

جاءت المظاهرُ المتعددة لتنامي الحضور الصيني في منطقة الساحل الغربي للقارة الإفريقية المطل على المحيط الأطلنطي نتيجة عوامل متعددة يتعلق بعضها بالأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة من القارة الإفريقية، ويتصل البعض الآخر بطبيعة المنافسة المحتدمة بين الصين وعدد من الأطراف الدولية الأخرى التي ظهرت بوضوح في مناطق متعددة من العالم، الأمر الذي فرض على الصين توسيع ساحة المنافسة لتشمل مناطق إضافية. وتضم قائمة الدوافع الصينية ما يلي:

1- التصدي لتمدد الخصوم في شرق إفريقيا: اتساقاً مع الاعتبارات الجغرافية، شكلت مناطق الساحل الشرقي للقارة الإفريقية تقليدياً مركز الحضور الصيني في إفريقيا عبر النشاط المكثف في قطاع الموانئ والبنية التحتية والنقل، ومن خلال ممارسة دور فاعل في مشروعات التكامل الإقليمي، خاصة تلك التي تضم الدولتين صاحبتي الاقتصاد الأكبر في شرق إفريقيا وهما كينيا وإثيوبيا. كذلك تمتعت منطقة شرق إفريقيا بمظهر استثنائي للحضور الصيني بعد أن استضافت جيبوتي القاعدة العسكرية الصينية الأولى خارج حدود البلاد التي دخلت الخدمة عام 2017. وإذا كان التقارب الجغرافي النسبي قد منح الصين ميزة نسبية في شرق إفريقيا، إلا أنه فرض أيضاً تحدياً إضافياً، حيث تحول الإقليم إلى امتداد طبيعي لساحات التنافس التقليدية بين الصين وعدد من القوى الآسيوية المنافسة بعد أن عززت كل من اليابان والهند حضورهما في المنطقة ذاتها، الأمر الذي بات يشكل مصدراً للضغط المتصاعد على الحضور الصيني في هذه المنطقة. على هذا الأساس، باتت الصين مضطرة للبحث عن خيارات بديلة تعزز بها قدراتها على استمرار الاستفادة من مزايا التواجد المستقر في القارة الإفريقية، من دون الاضطرار لتحمل تكلفة المنافسة المتصاعدة مع اللاعبين الآسيويين، الأمر الذي عزز من أهمية تكثيف الحضور الصيني بكافة مظاهره في غرب القارة الإفريقية.

2- انتهاج استراتيجية هجومية وتعديد أوراق المقايضة: تدرك الصين أن الضغوط المتصاعدة التي تمارسها قوى آسيوية في مقدمتها اليابان والهند، إنما تعبر عن محاولة أمريكية لاحتواء التمدد الصيني عالمياً وضبطه بما لا يعرض التفوق الأمريكي لأي تهديد، خاصة منذ إطلاق آلية الحوار الأمني الرباعي Quadrilateral Security Dialogue المعروفة اختصاراً باسم كواد QUAD التي تجمع الولايات المتحدة الأمريكية والهند واليابان وأستراليا والتي بدأت في عام 2007 وأعيد تطويرها بعد عشرة أعوام على نحو أكثر فاعلية. على هذا الأساس، تسعى الصين لتعزيز قدراتها في المنافسة الدولية عبر تثبيت أقدامها كطرف مؤثر في معادلة الأمن في الأطلنطي كصورة من صور تبني الاستراتيجية الهجومية، من أجل امتلاك أوراق مقايضة استثنائية تُقلل من تداعيات التهديدات الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادي. وفي هذا المجال، تبدو منطقة شرق الأطلنطي الموقع المثالي في ظل تعدد أصول القوة الصينية في إفريقيا وبعدها النسبي عن الجوار الأمريكي المباشر.

3- الاستفادة من الواقع السياسي والأمني في المنطقة: تشكل الأوضاع السياسية والأمنية القائمة في دول غرب إفريقيا أحد أبرز العوامل المحفزة لتكثيف الحضور الصيني في المنطقة. فعلى الجانب السياسي، تجد الكثير من دول المنطقة في الصين حليفاً دولياً موثوقاً لا يستخدم أوراق المشروطيات السياسية فيما يقدمه من مساعدات إنمائية أو دعم اقتصادي، وهو ما تزيد أهميته في دول مثل غينيا الاستوائية أو الكاميرون التي تخضع لحكم رئيس واحد لأكثر من أربعة عقود. وعلى المستوى الأمني، جاءت ظاهرة الإرهاب وما واكبها من عجز دول الإقليم مدعومة بأطراف دولية لتوفر فرصة لبحث هذه الدول عن مصادر جديدة للدعم، سواء على مستوى الدعم المباشر في جهود مكافحة الإرهاب، أو على مستوى الدعم غير المباشر المتمثل في احتواء آثاره الاقتصادية والاجتماعية، وهي المجالات التي وجدت فيها الصين مداخل ملائمة لتعزيز حضورها في الإقليم في السنوات الأخيرة.

4- بناء شبكة مصالح عبر الأطلنطي: على الرغم من أن أمريكا اللاتينية غير متضمنة في مبادرة الحزام والطريق الصينية، إلا أن الرئيس الصيني تشي جينبينج قد وصفها في لقائه بالرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري عام 2018 بأنها تشكل امتداداً طبيعياً لطريق الحرير الصيني في القرن الحادي والعشرين. وفي العام نفسه وخلال انعقاد منتدى التعاون الذي يربط الصين بمجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي China-CELAC Forum في العاصمة التشيلية سانتياجو، دعا وزير الخارجية الصيني دول أمريكا اللاتينية للمشاركة في مشروعات مبادرة الحزام والطريق، كما تمت صياغة هذه الدعوة في وثيقة حملت اسم “الإعلان الخاص لمبادرة الحزام والطريق”. وتسعى الصين من خلال تكثيف تواجدها في الساحل الغربي للقارة الإفريقية والساحل الشرقي لأمريكا الجنوبية لأن تبني شبكة متكاملة من المصالح الاقتصادية المترابطة عبر المحيط الأطلنطي، الأمر الذي يُعزز بصورة استثنائية من حضورها في نصف الكرة الأرضية الغربي.

مقاربات حذِرة

إجمالاً، يأتي اهتمام الصين المتنامي بتعزيز حضورها على الساحل الغربي للقارة الإفريقية ليحقق أهدافاً متعددة ترتبط بالمنافسة التي تخوضها الصين مع عدد من الأطراف الدولية، إلا أنه سيفرض العديد من التداعيات على دول غرب القارة الإفريقية نفسها، خاصة في ظل ما تشير إليه التجربة في مناطق أخرى من القارة من ارتباط ارتفاع حدة المنافسة الدولية في منطقة ما بتعدد مصادر التوتر والاضطراب، وفقدان دولها القدرة على استعادة الاستقرار وفق الآليات الإقليمية المعتادة، الأمر الذي يشير إلى ضرورة تبني الدول الإفريقية في غرب القارة مقاربات حذِرة تقوم على حسابات دقيقة للتكلفة والعائد، وتحقق التوازن في تموضع هذه الدول على الساحة العالمية.