مشروع الجولاني:
لماذا اتجهت “تحرير الشام” للسيطرة على عفرين؟

مشروع الجولاني:

لماذا اتجهت “تحرير الشام” للسيطرة على عفرين؟



يسعى زعيم “هيئة تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني، إلى المضيّ قدماً في مخططات التوسع بمناطق الشمال السوري، على غرار ما حدث في محافظة إدلب، من خلال الدفع بعناصره إلى السيطرة على مدينة عفرين وبلدات وقرى مجاورة بمحافظة حلب، للسيطرة على المعابر وإخضاع الفصائل والمليشيات المسلحة بالمحافظة لسيطرته. ولكن يبقى هذا مرهوناً بعدد من العوامل، منها موقف تركيا الذي اتسم بالغموض إزاء هذه التحركات، إضافة إلى موقفي روسيا والنظام السوري، في ضوء تداعيات الاشتباكات الأخيرة على اتفاق خفض التصعيد لرسم خطوط التماس بين مناطق سيطرة مختلف الأطراف على الساحة السورية.

تمكّنت عناصر “هيئة تحرير الشام”، في 14 أكتوبر 2022، من السيطرة على مدينة عفرين بمحافظة حلب شمالي سوريا، بعد اشتباكات بين “الهيئة” وما يُعرف بـ”الفيلق الثالث” ضمن “الجيش الوطني”، الذي يضم تشكيلات ومليشيات عسكرية تُصنف بالمعارضة للنظام السوري.

وتقدمت عناصر “تحرير الشام” من محافظة إدلب إلى محافظة حلب المجاورة، بعد تصاعد التوتر والاشتباكات المسلحة بين “الفيلق الثالث” وتحديداً تشكيل “الجبهة الشامية”، ومليشيات مسلحة أخرى من بينها فصيل يُعرف بـ”فرقة الحمزة”، لبضعة أيام، على خلفية اتهام الأخير بقتل ناشط إعلامي وأسرته.

وعلى الرغم من أن الساحة السورية على مدار السنوات العشر الماضية تشهد مواجهات مستمرة بين الفصائل والمليشيات المسلحة المعارضة وبعضها بعضاً؛ إلا أن الاشتباكات الأخيرة وتوغل “تحرير الشام” يثير علامات الاستفهام، لاعتبارات تتعلق بأن المواجهات حدثت بين أطراف موالية أو مدعومة من تركيا، بما قد يُغير معادلة السيطرة والنفوذ في الشمال السوري مستقبلاً.

مشهد معقد

بشكل عام، يتسم المشهد في المناطق التي تخضع لسيطرة مليشيات وفصائل مسلحة تُصنف بالمعارضة للنظام السوري بالتعقيد في ضوء اندلاع قتال بين تلك الفصائل بين حين وآخر، سواء لاختلافات أيديولوجية والسعي لاستئصال بعضها بعضاً، أو للصراع على السيطرة والنفوذ والمكاسب المادية، وهو ما يمتد إلى حالة القتال في محافظة حلب وسيطرة “هيئة تحرير الشام” على مناطق شمال وشمال غرب المحافظة. ويمكن تحديد أبعاد المشهد كالتالي:

1- استغلال “الهيئة” مواجهات فصائلية بحلب: لم تكن “تحرير الشام” طرفاً في معادلة القتال والمواجهات في محافظة حلب، باعتبارها خارج نطاق سيطرتها ونفوذها؛ إلا أن اللافت أنها استغلت القتال بين “الفيلق الثالث” وتحديداً “الجبهة الشامية”، و”الحمزة” في مدينة الباب، للدفع بتعزيزات عسكرية تابعة لها مدعومة بعناصر الاقتحام والمداهمة (تشكيل أشبه بوحدة خاصة ذات قدرات قتالية عالية)، وتمكّنت، منذ 12 أكتوبر الجاري، من السيطرة على عدة بلدات وقرى في حلب، قبل أن تتمكن من السيطرة الكاملة على مدينة عفرين، في 14 من الشهر نفسه، وفقاً لتقارير إعلامية سورية، وأقدمت على نشر عناصرها وإقامة الحواجز، بعد تراجع “الفيلق الثالث” إلى مدينة أعزاز بالمحافظة ذاتها.

2- موقف مليشيات مناوئة لـ”الفيلق الثالث”: عقب التدخل العسكري لـ”تحرير الشام” في محافظة حلب، والتقدم باتجاه مدينة عفرين، وجّه “الفيلق الثالث” اتهامات لمليشيات مناوئة له مثل فرقة “الحمزة” وفرقة “السلطان سليمان شاه”، بتسهيل مرور الأرتال العسكرية لـ”الهيئة” إلى مدينة عفرين، على وقع الخلاف بين الفرقتين و”الفيلق الثالث”، لترد “الحمزة” في بيان بأنها “سلمت الجناة المتورطين في مقتل ناشط إعلامي، وأن الفيلق يسعى للسيطرة مدينة الباب”. ولم تتدخل فصائل عسكرية من خارج “الفيلق الثالث” في محافظة حلب لمواجهة تقدم “تحرير الشام”، إذ ظلت المواجهات منحصرة بين “الهيئة” وفصيلين من أبرز مكونات “الفيلق الثالث” وهما “الجبهة الشامية” و”جيش الإسلام”.

3- غموض الموقف التركي في المشهد الحالي: على مدار أيام، لم يصدر موقف رسمي من قبل تركيا بعد تقدم “تحرير الشام” إلى داخل حلب والسيطرة على مدينة عفرين، وهو الموقف ذاته حيال المواجهات بين “الفيلق الثالث” و”الحمزة” في مدينة الباب، وكلاهما من مكونات “الجيش الوطني”، والمقربين من تركيا. وهنا يبرز احتمالان: أولاً، موافقة أنقرة، ويستند هذا الاحتمال إلى أن الأخيرة ترغب في تقويض نفوذ “الجبهة الشامية” أحد مكونات “الفيلق الثالث” بعد مواجهات مع أطراف أخرى موالية لها، من خلال تفاهمات مع “تحرير الشام”، خاصة مع إشارة تقارير سورية محلية إلى أن قوات تركية أقدمت على تنظيم دوريات في مدينة عفرين خلال سيطرة “الهيئة” على المدينة، وشاركت في بعض الحواجز أيضاً. وثانياً، التدخل للتهدئة، فبغض النظر عن الموافقة أو الرفض للاشتباكات الأخيرة وسيطرة “تحرير الشام” على مدينة عفرين، ربما لم تُبدِ تركيا رد فعل رسمياً أو تتجه إلى اتخاذ موقف مؤيد أو معارض لأي طرف، بغرض إظهار موقف محايد من مختلف الأطراف على الأقل ظاهرياً، لعدم إثارة أي فصيل من تلك الفصائل ضدها، في ضوء العلاقة التي تجمعها بالأطراف المتنازعة، ومشاركة بعضهم في المواجهات مع الأكراد، وعدم الرغبة في خسارة “تحرير الشام” التي تسيطر على محافظة إدلب، وبالتالي تتدخل للتهدئة بين جميع الأطراف والوصول لتفاهمات معينة، ولكن الأهم خفض مستوى التصعيد على حدودها، وضمان التحكم في الأطراف بتلك المناطق.وهنا، يمكن الإشارة إلى ما نشرته تقارير سورية محلية بشأن مشاركة مسئولين أتراك في مفاوضات وقف إطلاق النار بين “تحرير الشام “والفيلق الثالث”، للوصول لاتفاق نهائي للأزمة.

4- احتواء أي رفض شعبي لتدخل “تحرير الشام”: بعد انسحاب “الفيلق الثالث” من عفرين باتجاه مدينة أعزاز بريف حلب، باعتبارها منطقة نفوذ رئيسية لمجموعة “الجبهة الشامية”، أحد المكونات الرئيسية لـ”الفيلق”،شهدت المدينة مظاهرات لرفض التدخل الأخير لـ”تحرير الشام” والسيطرة على مدينة عفرين، خاصة مع انتشار أنباء عن استعداد “الهيئة” للتقدم في مناطق “الجبهة الشامية” بمدينة أعزاز لملاحقة عناصرها بعد فشل الهدنة بانتظار مواصلة المشاورات للتوصل لاتفاق بين الطرفين. وهنا، فإن احتواء أي غضب شعبي دفع “تحرير الشام” إلى سحب عناصر الاقتحام باتجاه محافظة إدلب، مع الحفاظ على الوجود العسكري لعناصرها ونشر الحواجز.

5- قصف روسي لمواقع خفض التصعيد بحلب: أقدم سلاح الجو الروسي على شن غارات جوية في محافظة حلب، وتحديداً على مواقع لـ”الجبهة الشامية” في ريف حلب بين مدينتي أعزاز وعفرين، فيما شن غارات أخرى على مواقع غرب مدينة عفرين. وعلى الرغم من الخروقات الروسية لاتفاق خفض التصعيد في شمال سوريا وفقاً لمخرجات مسار أستانة، وقصف مواقع لمليشيات مسلحة تُصنف بـ”المعارضة”، إلا أن القصف الأخير يأتي عقب سيطرة “تحرير الشام” على مدينة عفرين، فيما لم يصدر موقف رسمي من روسيا أو من النظام السوري بشأن التطورات الميدانية الأخيرة، ربما بانتظار ما تُسفر عنه التفاهمات الأخيرة برعاية تركية.

دوافع رئيسية

في ضوء المشهد الحالي بمحافظة حلب، ومحاولات التوصل لاتفاق بين “الفيلق الثالث” و”تحرير الشام” حيال تسوية المواجهات بين الطرفين، ومطالب كل منهما؛ يمكن التطرق إلى أبرز الدوافع وراء تصعيد “الهيئة” الأخير، كالتالي:

1- توسيع النفوذ من إدلب إلى حلب: تمكنت “الهيئة” من بسط السيطرة الكاملة على محافظة إدلب، سواء عسكرياً وأمنياً أو مدنياً من خلال دعم تشكيل “حكومة إنقاذ” تتولى الأعمال المدنية والخدمية للمحافظة. وهنا فإن التمدد الأخير لـ”الهيئة” باتجاه محافظة حلب والسيطرة على مدينة عفرين، يمكن النظر إليه في سياق محاولات توسيع النفوذ بعد إحكام السيطرة على محافظة إدلب خلال الأعوام القليلة الماضية، ومن خلال فرض السيطرة العسكرية يمكن توسيع نطاق عمل “حكومة الإنقاذ” إلى عفرين مستقبلاً، خاصة وأن هذا الموقف تكرر في مناطق غرب محافظة حلب وإخضاعها لسيطرة تلك الحكومة. ويعزز من رؤية “الهيئة” اشتراط أن يقتصر نشاط “الفيلق الثالث” على الشقّ العسكري فقط، وفقاً لاتفاق نشرته تقارير محلية سورية.

2- تفكيك بعض المليشيات المناوئة: أقدمت “تحرير الشام” خلال الأعوام القليلة الماضية في محافظة إدلب على محاولة تفكيك مليشيات مسلحة على الساحة سواء بدمجها في “الهيئة” أو الخضوع لتوجهاتها، أو ملاحقة وتصفية المليشيات الرافضة لسياساتها، في إطار تقديم نفسها باعتبارها الفصيل الأكبر والأقوى على الساحة السورية. وهنا، يمكن النظر إلى الخلافات بين “تحرير الشام” ومكونات “الفيلق الثالث” وتحديداً “جيش الإسلام” و”الجبهة الشامية”، وبالتالي فإن “الهيئة” تسعى إلى تفكيك تلك المليشيات أو إضعافها من خلال التدخل في حلب، كأحد العوامل المهمة لتوسيع نفوذها. فقد أشارت تقارير إعلامية إلى مطالبة “الهيئة” بنقل عناصر “جيش الإسلام” إلى مناطق “نبع السلام” في رأس العرب وتل أبيض. ومن شأن هذه الخطوة أن تؤدي إلى تعاظم نفوذ “الهيئة” باعتبارها إحدى أقوى المليشيات على الساحة السورية، بالنظر إلى السيطرة على عفرين والبلدات والقرى المجاورة، من خلال الدفع بما يقترب من ألفي عنصر إلى حلب، وفقاً لتقديرات نشطاء سوريين.

3- تعزيز السيطرة على المعابر: يمكن النظر إلى سيطرة “تحرير الشام” على عفرين، في إطار محاولة التحكم في المعابر سواء مع تركيا أو النظام السوري خلال الفترة المقبلة، نظراً للفائدة الاقتصادية من إدارة تلك المعابر، بما يخدم مخطط التوسع وتعزيز النفوذ في الشمال السوري. وسبق سيطرة “الهيئة” على عفرين الاتجاه إلى إزالة الحواجز بمعابر بين محافظة إدلب ومنطقة سيطرة النظام السوري، مثل تحركات “الهيئة” بمنطقة سراقب شرقي محافظة إدلب منذ شهر سبتمبر الماضي، بعد الحديث عن مفاوضات بين تركيا والنظام السوري على فتح المعابر بين مناطق شمال سوريا ومناطق سيطرة الجيش السوري.

4- موازنة المعادلة مع “الفيلق الثالث”: بالنظر إلى الخلافات بين الفصائل والمليشيات في محافظة حلب، وحالة السيولة في التشكيلات العسكرية وغرف العمليات المشتركة، وفي ظل الخلافات بين “الهيئة” و”الفيلق الثالث”، فإن التوسع الميداني لـ”تحرير الشام” يهدف إلى معادلة نفوذ وسيطرة “الفيلق” في المحافظة لصالح مليشيات وفصائل أخرى، تقبل الانخراط في قيادة عسكرية موحدة مع “الهيئة” بقيادتها، وهو أحد المطالب الرئيسية للأخيرة وفقاً لتسريبات نشرتها تقارير إعلامية خلال المفاوضات مع “الفيلق الثالث”، وفي حال رفض الأخير يمكن أن تشرع “الهيئة” في تشكيل قيادة عسكرية مع فصائل أخرى، ولكن مع عدم الصدام مع “الفيلق” من خلال تسليمه السلاح الذي صادرته “الهيئة” في المواجهات واقتحام المقرات بمدينة عفرين والبلدات المجاورة، لعدم إثارة تركيا التي لديها علاقات بمختلف مكونات “الجيش الوطني” المشاركة في عملياتها ضد الأكراد.

تحول مشروط

وأخيراً، فإن مسارات التصعيد لـ”تحرير الشام” والسيطرة على مدينة عفرين، تمثل محاولة لتأسيس وجود دائم في محافظة حلب، يخدم مشروع الجولاني التوسعي في مناطق الشمال السوري، وتكرار النموذج المُطبق في إدلب، بمحافظة حلب تدريجياً، على الأقل في المناطق التي تقع خارج نطاق عمليات “نبع السلام” بنقاط الاشتباك بين مليشيات سورية موالية لتركيا، والأكراد في شمال شرقي سوريا. ولكن ذلك سيبقى مرهوناً بموقف روسيا والنظام السوري وحدود التفاهمات مع تركيا، في ضوء تصنيف “الهيئة” كتنظيم إرهابي، إذ نصت تفاهمات أستانة على تضافر الجهود لمكافحة “تحرير الشام” إضافة إلى تنظيم “داعش”.