نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 27 ديسمبر 2021، جلسة استماع عن “مستقبل العالم العربي في إقليم متغير” وكيفية إدارة العلاقة بين الدول العربية والقوى الإقليمية الأخرى. واستضاف المركز وزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام لجامعة الدول العربية الأسبق السفير “عمرو موسى” (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، بجانب مشاركة كلٍّ من وزير الخارجية الأسبق السفير “محمد العرابي”، والسفير “محمد أنيس سالم”، والدكتور “إبراهيم عوض” أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية. كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ محمد بسيوني، والأستاذ محمد الفقي.
مقومات الدور
استهلّ السيد “عمرو موسى” الجلسةَ بالتأكيد على أن ثمة ضرورة ملحّة لاستشراف المستقبل انطلاقاً من المعطيات الحاضرة وطبيعة الأزمات الراهنة في المنطقة وكذلك الأدوار الإقليمية، فهناك العديد من القوى الإقليمية التي تطمح إلى القيام بدور رئيسي في تفاعلات المنطقة، ويمكن القول هنا إن هذا الدور يرتبط بعددٍ من المقومات، فالأمر لا يقتصر فقط على القوة الصلدة وخصوصاً العسكرية؛ ولكن الأمر يرتبط أيضاً بمصادر القوة الناعمة للدولة، وقدرتها على التأثير في الآخرين عبر منتجاتها الثقافية، أو حتى عبر نماذج ملهمة.
ويضيف السيد “موسى” أن هذه القوة الناعمة ظهرت تاريخياً في الحالة المصرية التي كان لها قدرة كبيرة على التأثير في كافة الدول العربية عبر نماذج متنوعة ثقافية وفنية وكذلك تعليمية ساهمت -بشكل أو بآخر- في الترويج للدور المصري، ولذا فإن مصر تحتاج لإكساب مصادر قوتها الناعمة المزيد من الزخم في اللحظة الراهنة كي تستطيع تعزيز دورها إقليمياً. كما شهدت السنوات الماضية محاولة بعض الدول -على غرار السعودية- التكريسَ لمصادر جديدة لقوتها الناعمة عبر التركيز على سياسات جديدة للانفتاح الثقافي والاجتماعي، وتنظيم أحداث فنية وثقافية متنوعة، واستقطاب الفنانين من دول مختلفة.
ويرى السيد “موسى” أن الدول الكبرى في النظام الدولي هي الأخرى لا تقتصر على استخدام أدوات القوة الصلبة، فالولايات المتحدة حققت مكانتها العالمية في المقام الأول بسبب ما تمتلكه من مصادر القوة الناعمة التي حوّلتها إلى نموذج ملهم للكثير من المجتمعات والأفراد حول العالم عبر جامعة هارفارد، وسينما هوليود، ووكالة ناسا. كما أن الصين هي الأخرى تحاول تعزيز صورتها الإيجابية عالمياً من خلال صياغة مواقف للمكسب المشترك مع الدول الأخرى، وخاصة عبر مبادرة “الحزام والطريق”؛ إذ روّجت بكّين للمبادرة من منظور المكسب المشترك بينها وبين الدول التي تشترك في المبادرة Win-Win Game.
المفاهيم المتغيّرة
أشار السيد “عمرو موسى” إلى أن بعض المفاهيم تحتاج إلى إعادة نظر، وفي مقدمتها مفهوم الأمن القومي العربي، ففي المرحلة الحالية يبدو أنه من الصعب الحديث عن مفهوم موحد للأمن القومي العربي، في ظل الاختلافات بين الدول العربية حول أمنها ومصادر التهديدات الخاصة بها؛ حيث يفترض مفهوم الأمن القومي العربي الاتفاق حول مصادر التهديد للأمن القومي، ولكنّ الإشكالية التي باتت تواجهها الدول العربية في العقود الماضية هي التباين في رؤية مدركات النخب الحاكمة العربية لمصادر تهديد الأمن القومي العربي، وترتيب هذه المصادر. فثمة دول ترى أن إسرائيل هي مصدر التهديد الأول للأمن القومي، بينما ترى دول أخرى أن إيران هي مصدر التهديد الأول للأمن القومي، ناهيك عن تهديدات الأطراف الإقليمية الأخرى، مثل تركيا. وفي هكذا سياق، يمكن القول إنه لا يوجد مفهوم واحد للأمن القومي العربي، ولكن هناك مفاهيم مختلفة.
وفي هذا الصدد، رأى السيد “عمرو موسى” أن الأولوية يجب أن تُعطَى لمفهوم الأمن الوطني لكل دولة، فمثلاً في حالة مصر يرتبط الأمن الوطني بالتهديدات المتنوعة القادمة من الغرب، حيث الأوضاع غير المستقرة في ليبيا، وكذلك من الشرق حيث التهديدات الإرهابية، وكذلك من الجنوب حيث تهديد سد النهضة الإثيوبي لحصة مصر من مياه النيل.
وبموازاة تأكيد السيد “موسى” على فكرة الأمن الوطني كبديل لمفهوم الأمن القومي العربي غير المتفق عليه؛ فإنه أشار إلى ضرورة استناد السياسة الخارجية للدولة إلى فكرة المصلحة الوطنية، وبناء العلاقات بين الدول على فكرة توافقات المصالح، وما يمكن أن تقدمه كل دولة لغيرها. علاوة على ذلك، فإن الدول يجب أن تتبنى سياسات خارجية غير جامدة تتعامل مع القضايا المختلفة بحسب منظور المصلحة بعيداً عن الشعارات والأفكار التي كانت سائدة في مراحل تاريخية ما.
مواجهة التهديدات
انتقل السيد “عمرو موسى” بعد ذلك إلى عدد من المداخل الرئيسية لمواجهة التهديدات الإقليمية للدول العربية، ويتمثل أهمها فيما يلي:
1- إعادة النظر في مكانة الجامعة العربية: فالجامعة تعرضت خلال السنوات الماضية لإشكاليات عديدة جعلتها تتراجع في مخيلة الكثيرين، كما أن هناك العديد من القيود على عملها، ولذا فإن هناك حاجة ملحّة لطرح مقترحات لتطوير الجامعة، خصوصاً أن التنظيمات الدولية المختلفة (مثل: الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي) هي الأخرى تمر بمرحلة تغير كي تتمكن من التعايش مع السياقات القائمة ومتغيراتها.
2- إمكانية إحياء فكرة “الجوار” العربي: وهي فكرة طرحها السيد “عمرو” سابقاً أثناء توليه منصب الأمين العام للجامعة العربية، وتستند إلى دعوة عدد من الدول الإقليمية المجاورة للوطن العربي، لتنضم إلى دول الجامعة العربية لتكوين رابطة فيما بينها تستهدف البحث عن المصالح المشتركة بين الدول العربية ودول الجوار، ومحاولة تسوية أي خلافات بينها. وبشكل مجمل، تسعى هذه الرابطة إلى إيجاد أرضية مشتركة بين الدول العربية. وأضاف أن هذه الرابطة يمكن أن يتم تضييق نطاقها بحيث يتم دعوة عدد من دول الجوار المتقاربة فكرياً مع الدول العربية كي تلعب هذه الدول دوراً في التهدئة الإقليمية.
وفي هذا السياق، أكد السيد “موسى” ضرورةَ فتح قنوات للحوار والتواصل مع الدول التي تُهدد مصالح وأمن الدول العربية، وفي مقدمة هذه الدول إيران، ولذا يجب أن يكون هناك حوار عربي جاد معها حول سياساتها العدائية في المنطقة. كما ذكر أن إسرائيل طرف في المنطقة، ويجب أن تفتح قنوات للتواصل معها، وهو الأمر الذي يستلزم أيضاً إيجاد حل للقضية الفلسطينية، وضرورة تجاوز الفلسطينيين للانقسام القائم بينهم، لأنه يؤثر سلباً على وضع القضية، ويعطي إسرائيل المبرر للاستمرار في سياساتها.
3- تعزيز المدخل الوظيفي للتعاون بين الدول العربية: وهو المدخل الذي تجلّى مثلاً في حالة الاتحاد الأوروبي، ويستند إلى إمكانية تأسيس الدول العربية نواة اقتصادية بينها للتعاون الاقتصادي والتجاري، والتي يمكن عبرها تقديم نموذج يمكن أن يجذب الدول الأخرى في الإقليم، ويخفف من التوترات والصراعات القائمة. وبحسب السيد “عمرو موسى” يمكن للدول العربية أيضاً أن تعتمد على ملف الطاقة، سواء الغاز أو الكهرباء، كمحفز للتعاون الاقتصادي فيما بينها.
4- العمل على استشراف مستقبل التغيرات البنيوية العربية: فقد أكد السيد “عمرو موسى” ضرورةَ صياغة أطر معينة لاستشراف المستقبل بصورة تتيح للدول العربية مواجهة التهديدات المقبلة، وهي الفكرة التي أكد عليها أيضاً بعض الحضور، حيث ذكر السفير “محمد أنيس سالم” أن هناك حاجة لمراقبة التغيرات البنيوية التي تواجهها دول المنطقة، وذلك على غرار التغيرات الديموغرافية التي ستشهدها المنطقة العربية في السنوات القادمة، وتزايد عدد السكان بوتيرة متسارعة، وكذلك تزايد أعداد الشباب، علاوةً على دخول العالم إلى عصر ما بعد البترول، وكذلك انتقال مركز الثقل العالمي من الغرب إلى الشرق، والذي يتضمن إعادة تقييم قوة ونفوذ عدد من الدول، وكذا صعود نفوذ الصين بصورة جلية والتي تركز على المدخل الاقتصادي للارتباط بالدول الأخرى. وكل هذه التحولات الممكنة تحتاج من الدول العربية إعادة التفكير والنظر في موقعها الحالي، وكيف ستتعاطى مع قضايا المستقبل.