مسارات أربعة:
مستقبل السودان بعد استقالة “عبدالله حمدوك”

مسارات أربعة:

مستقبل السودان بعد استقالة “عبدالله حمدوك”



بعد سلسلة من التوترات السياسية المتصاعدة، تقدم رئيس مجلس الوزراء الانتقالي “عبدالله حمدوك” باستقالته من منصبه ليفاقم من حدة الأزمة العميقة التي تشهدها المرحلة الانتقالية السودانية. وتضع هذه الاستقالة السودان أمام مستقبل غامض قد يأخذ أحد مسارات أربعة تتمثل في: إجراء انتخابات مبكرة لإنهاء المرحلة الانتقالية برمتها، أو تشكيل حكومة تكنوقراط غير حزبية بدعم من المؤسسة العسكرية، أو إعادة بناء الشراكة المدنية العسكرية من جديد عبر وثيقة توافقية جديدة، أو تسليم السلطة كاملة للقوى المدنية لقيادة البلاد منفردة فيما تبقى من المرحلة الانتقالية.

جاءت استقالة “عبدالله حمدوك” من رئاسة الحكومة السودانية لتضع مستقبل المرحلة الانتقالية في السودان في وضع بالغ الحرج. فعلى الرغم مما شكله توقيع الاتفاق السياسي الإطاري في نوفمبر من انفراجة في العلاقات بين شركاء الحكم في السودان، فقد جاء الإخفاق في تطبيق بنود هذا الاتفاق ليجدد الشكوك بشأن قابليته للتطبيق، وهو ما أدى في النهاية لاستقالة “حمدوك” بما يحمله من آفاق غامضة لمستقبل السودان على المدى القريب والبعيد.

الطريق للأزمة

مرت المرحلة الانتقالية السودانية بمراحل متعددة أفضت في النهاية إلى الأزمة القائمة المترتبة على استقالة رئيس مجلس الوزراء الانتقالي “عبدالله حمدوك”. فقد جاء قرار المؤسسة العسكرية للإطاحة بالرئيس السابق “عمر البشير” على إثر موجة احتجاجية متصاعدة بدأت في ديسمبر 2018 وبلغت ذروتها في أبريل 2019. وكنتيجة مباشرة للطبيعة التلقائية لتفاعل الأطراف المختلفة مع الأزمة، وجدت المؤسسة العسكرية السودانية ممثلة في القوات المسلحة وقوات الدعم السريع نفسها بحاجة إلى حليف مدني، كما وجدت القوى الحزبية والمدنية تحت مظلة قوى الحرية والتغيير نفسها بحاجة لدعم قوي من داخل مؤسسات الدولة، وذلك على النحو الذي أكدته سلبيات تجربة الشهور الأربعة التي قاد فيها البلاد المجلس العسكري الانتقالي على نحو تواترت فيه الأزمات التي كان أبرزها أزمة فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة في الثالث من يونيو.

على هذا الأساس، قبلت الأطراف السودانية -برعاية دولية وقارية- توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس 2019 التي أسست لشراكة مدنية عسكرية في إدارة البلاد جسدتها رئاسة الفريق أول “عبدالفتاح البرهان” لمجلس السيادة الانتقالي، ورئاسة “عبدالله حمدوك” ممثلاً عن قوى الحرية والتغيير لمجلس الوزراء الانتقالي الذي يتمتع بالنسبة الغالبة من الصلاحيات التنفيذية. ونظراً لما تمثله قضايا السلام وتسوية الصراعات في أطراف السودان المختلفة من أولوية، بات على السلطات السودانية الجديدة التوصل لتوافق جديد مع الشريك الثالث الممثل في الفصائل والحركات المسلحة، وذلك على نحو ما أسفر عن توقيع اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر 2020 بعد مفاوضات شاقة ومطولة لم تنجح في دمج كافة الفصائل الناشطة على الأرض، كما لم تحرز ذات القدر من النجاح في مختلف المسارات الإقليمية.

وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه أن تشهد العملية الانتقالية في السودان المزيد من الاستقرار، استهلت البلاد عام 2021 بأزمة سياسية كبيرة تتعلق بتشكيل حكومة “عبدالله حمدوك” الثانية كإحدى النتائج المباشرة المترتبة على توقيع اتفاق جوبا من أجل ضمان تمثيل الفصائل المسلحة في مجلس الوزراء الانتقالي، لتخرج الوزارة الثانية أكثر تسييساً وأقل تجانساً من سابقتها. ومنذ ذلك الوقت دخلت العلاقات بين شركاء الحكم الانتقالي في أزمات متواترة تباينت في طبيعتها بين تبادل الاتهامات بشأن تردي الأوضاع المعيشية وتعثر تحسن أوضاع الاقتصادي السوداني، وبشأن تفجر أزمة شرق السودان بعد احتوائها نسبياً قبل عام، فضلاً عن ظهور العديد من الأزمات الفرعية التي أفضت إلى قيام رئيس مجلس السيادة الانتقالي في الخامس والعشرين من أكتوبر بالإعلان عن مجموعة من القرارات تضمنت حل الحكومة وتشكيل حكومة تكنوقراط.

ومع تصاعد الضغوط الدولية تجددت المشاورات بين الفريق أول “عبدالفتاح البرهان” و”عبدالله حمدوك” لتسفر في النهاية عن توقيع الاتفاق السياسي الإطاري في الحادي والعشرين من نوفمبر الذي يستعيد به “حمدوك” صلاحياته كرئيس لمجلس الوزراء الانتقالي، مع استمرار مرجعيتي الوثيقة الدستورية واتفاق جوبا للسلام؛ إلا أن الرفض الواسع الذي قوبل به الاتفاق من كافة القوى المدنية شكل ضغطاً متصاعداً على “حمدوك”، واكبه استمرار الاحتجاجات الواسعة بصورة دورية، وهو ما دفعه في النهاية للاستقالة من رئاسة الحكومة بعد تعثر تشكيلها وتجدد الخلافات بشأن الصلاحيات مع المكون العسكري، الأمر الذي وضع مستقبل المرحلة الانتقالية في أزمة مستعصية.

مسارات المستقبل

توجه الأزمة السياسية القائمة مستقبل السودان إلى أربعة مسارات محتملة تتباين في طبيعتها وفي مآلاتها النهائية، وذلك على النحو التالي:

1- إجراء الانتخابات المبكرة:

من بين أسباب الأزمة السياسية المطولة في عام 2021 غموض الحدود الزمنية للخطوات الإجرائية الضرورية لاستكمال المرحلة الانتقالية، وهو ما يتصل بموعد تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي الذي يفترض أن يكون ثالث مؤسسات الحكم خلال المرحلة الانتقالية بجانب مجلسي السيادة والوزراء، وموعد تسليم المكون العسكري رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني مع احتفاظ الأول بعضويته في المجلس، وأخيراً الموعد النهائي لإجراء الانتخابات التي ستُنهي المرحلة الانتقالية وتسلم السلطة إلى طرف منتخب يتمتع بالقبول الشعبي. على هذا الأساس، وفي ظل الشكوك الكبرى التي باتت تكتنف استمرارية الوثيقة الدستورية بعد الخلافات الجسيمة بين الموقعين عليها، يمكن أن يتم طرح مقترح بإجراء انتخابات مبكرة خلال العام الجاري أو في مطلع العام المقبل كبديل يؤكد عدم سعي المؤسسة العسكرية للبقاء في السلطة من ناحية، ويوجه جهود القوى المدنية للاستعداد للانتخابات من ناحية ثانية. ولا يحظى هذا المسار بتأييد داخلي ودولي كبير في ظل المخاوف الحقيقية من تمكن بقايا نظام الإنقاذ من استغلال هذه الانتخابات في إعادة إنتاج النظام القديم من جديد.

2- تجديد الاتفاق بين شركاء الحكم:

في الوقت الذي تبدو فيه الأزمة السودانية قد بلغت نقطة متقدمة من التعقيد، لا تزال هناك فرص قائمة لتوصل أطراف الأزمة إلى توافق جديد مع توافر الإجماع الكافي بشأن ضرورة تعديل الوثيقة الدستورية بما يتلافى أخطاء الفترة الماضية التي تجاوزت العامين. كما جاء توقيع الاتفاق السياسي الإطاري في نوفمبر 2021 بين “عبدالفتاح البرهان” و”عبدالله حمدوك” كدليل إضافي على إمكانية توصل الشريكين العسكري والمدني لتوافق جديد، ولو عبر مفاوضات شاقة. وتدفع القوى الخارجية الأكثر اهتماماً بالشأن السوداني في اتجاه التوصل لاتفاق جديد يضمن استمرار الشراكة المدنية العسكرية، وتولي قيادة البلاد في المرحلة الانتقالية حكومة مدنية ذات صلاحيات تنفيذية موسعة تشرف على مختلف إجراءات الإصلاح السياسي والاقتصادي.

3- تشكيل حكومة تكنوقراط:

منذ إعلان “البرهان” قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر، بات من المتوقع أن يتم تشكيل حكومة تكنوقراط غير مسيسة لا تقوم على منطق المحاصصة الحزبية خلافاً لحكومتي “عبدالله حمدوك”. وفي الوقت الذي أبدت فيه قوى الحرية والتغيير رفضاً جازماً لمثل هذا الخيار الذي يقصيها فعلياً من المشاركة الفعالة في إدارة المرحلة الانتقالية، يحظى هذا التوجه بقدر من القبول من جانب قطاعات شعبية ترى في تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية أولوية، ومن جانب بعض الفصائل المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا، وكذلك من جانب بعض الرموز السياسية المنتمية لقوى حزبية ومدنية لم تحظَ بالتمثيل الملائم في حكومتي “عبدالله حمدوك”. لكن يظل نجاح هذا المسار مرتهناً بالأسماء التي ستقبل الانضمام للحكومة، وبقدرتها على إحراز نجاح سريع في الملف الاقتصادي على وجه الخصوص.

4- تسليم السلطة كاملة للمدنيين:

تسعى الأطراف الأكثر تضرراً داخل قوى الحرية والتغيير من التغيرات الأخيرة في بنية الحكم الانتقالي إلى محاولة إعادة إنتاج الزخم الاحتجاجي الذي أدى لإنهاء حكم “البشير”، وذلك من أجل التخلص من القيود التي يفرضها وجود المكون العسكري كشريك في السلطة، وذلك على النحو الذي تجسده الدعوات المستمرة لتنظيم الاحتجاجات الواسعة في شوارع العاصمة السودانية الخرطوم وغيرها من المدن الرئيسية بهدف تأسيس قيادة مدنية خالصة ومنفردة لما تبقى من المرحلة الانتقالية. وبقدر ما يبدو هذا الخيار غير واقعي، إلا أنه يمثل البديل المفضل لقطاع كبير من القوى المنتمية للأحزاب المختلفة، فضلاً عن القوى الشبابية غير المؤطرة. لكن ما قد يعيق تحقق هذا المسار الوضع الاقتصادي بالغ السوء الذي تعاني منه البلاد، والذي قد لا يتيح فرصة إطلاق مرحلة جديدة من غموض المستقبل السياسي.

فجوة الثقة

وختاماً، تشكل استقالة “عبدالله حمدوك” امتداداً لأزمة سياسية تجاوزت العام بين شركاء الحكم الانتقالي في السودان، كما تطرح في الوقت نفسه العديد من الأسئلة بشأن المستقبل السياسي في البلاد التي تمر بأوضاع داخلية صعبة في سياق إقليمي معقد. ولا تظهر أي فرصة حقيقية لتجاوز الأزمة في السودان من دون ترميم رصيد الثقة المتآكل بين مختلف الأطراف، بما قد يسمح بالتوصل لحل عبر التفاوض المباشر أو التنازلات الطوعية التي يقدمها كل طرف بصورة مستقلة.