مسارات متشابكة: هل تنتهي دورة الصراع في اليمن؟ – الحائط العربي
مسارات متشابكة: هل تنتهي دورة الصراع في اليمن؟

مسارات متشابكة: هل تنتهي دورة الصراع في اليمن؟



على مدار العام الأخير، رسمت أربعة تحولات تكتيكية رئيسية تطورات المرحلة الحالية في المشهد اليمني. أول تحول يتمثل في الهدنة التي استمرت لمدة 6 أشهر (أبريل – سبتمبر 2022) بين الحوثيين والحكومة اليمنية المعترف بها. وعلى الرغم من أنها لم تصمد كثيراً، إلا أنها شكّلت أول اتفاق عملي لـ”خفض التصعيد” منذ اندلاع الحرب ولا تزال بعض مظاهره قائمة في وقف التصعيد الخارجي المسلح.

والتحول الثاني يتعلق بإرهاصات التطورات الإقليمية الراهنة بين السعودية وإيران، والتي يرتقب ظهور انعكاساتها كمدخل للحل الإقليمي للأزمة اليمنية. أما التحول الثالث فينصرف إلى إبرام صفقة نوعية متعددة الأطراف لتبادل الأسرى ستنفذ خلال الشهر الجاري، وتعهد أطرافها بأن تكون مقدمة لمراحل تالية لتسوية هذا الملف الإنساني الذي يُعد أحد الملفات المحورية في الأزمة اليمنية. في حين يرتبط التحول الرابع باستكمال مظاهر فك الارتباط ما بين الشرعية والمليشيا، والذي يتجلى في السلوكيات الاقتصادية للمليشيا، وتحولات الظاهرة الطائفية.

متغيرات رئيسية

شكلياً، تعكس نقاط التحول الأربعة تناقضات واضحة، لا يجمعها قواسم دالة على ملامح السيناريو التالي. فهل يندفع المشهد اليمني إلى مسار التسوية السياسية على نحو ما يطالب به العديد من الأطراف، ففي الذكرى الأولى للهدنة مطلع الشهر الجاري، أصدر مجلس التعاون الخليجي بياناً أكد فيه على أن الظروف أصبحت مواتية لعملية التسوية. كما أصدر المبعوث الأممي لدى اليمن هانز غرندوبيرج بياناً ينطوي على المضمون نفسه، مع الإشارة إلى التحديات التي تعرقل الانتقال إلى عملية التسوية الشاملة. أم سيكون المشهد التالي معاكساً لهذه التوقعات، وسيظل أسير مسار التصعيد المسلح، لكنه بصدد مرحلة مختلفة في دورة الصراع؟

ويمكن القول إن ثمة متغيرات عديدة سوف يكون لها دور في ترجيح أى من هذه المسارات، وهي:

1- المراوحة بين الانفراجة والتصعيد التكتيكي: تُشير أدبيات الصراعات والتسوية في مراحل ما بعد الصراع إلى فرضية أخرى تجمع محصلة هذه التناقضات، وهي أن المشهد اليمني في المرحلة الحالية هو مشهد انتقالي، ويتقاسم مظاهر هذا المشهد أجواء الانفراجة من جهة، والتي تهدف إلى تبريد حالة الصراع والعمل على التهيئة للدخول إلى عملية التسوية، كمشهد إنجاز صفقة تبادل الأسرى في جنيف؛ ومن جهة أخرى مظاهر التصعيد التكتيكي كورقة ضغط بهدف رسم موازين القوى التي ستفرض نفسها على مرحلة التسوية في المستقبل، وهو ما نشهده على الساحة اليمنية حالياً، حيث زادت وتيرة التصعيد الحوثي على مختلف الجبهات الداخلية.

2- غموض الترتيبات الخاصة بنقطة التحول الرئيسية: وتتعلق بفترة ما بين نهاية دورة الصراع وبداية دورة التسوية؛ إذ لم يشهد الملف اليمني انفراجة فورية لمجرد الإعلان عن التقارب السعودي – الإيراني، وربما سيستغرق المزيد من الوقت لفهم تداعيات هذا التقارب على المشهد اليمني، فليس من المتوقع أن يعود طرفا الأزمة (الحكومة والحوثيون) إلى طاولة التفاوض للتسوية وفقاً للقواعد السابقة على نحو ما جرى في مسار الكويت 2016 ثم استكهولم 2019، فخريطة طريق التسوية وجدول أعمالها بل وقضاياها وأطرافها الفعليون لا تزال غير واضحة.

كذلك لا يزال من غير الواضح ما إن كانت ستبقى المرجعيات الرئيسية للتسوية السياسية التي تم التوافق عليها قبل الانقلاب الحوثي هي أساس التسوية المقبلة أم لا، خاصة وأن مآلات الحالة اليمنية قد فرضت متغيرات جديدة على أرض الواقع.

3- مدى تأثير الفاعلين الجدد: من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن بنية التسويات اليمنية السابقة كانت ترتكن إلى هندسة إقليمية – دولية تتمثل في التحالف العربي لدعم الشرعية، إلى جانب المجموعة الرباعية (الولايات المتحدة، وبريطانيا، والسعودية، والإمارات)، ثم ظهرت أدوار جديدة منها دور مجلس التعاون الخليجي، الراعي لعملية تغيير السلطة في اليمن، وبالتالي فإنه قد يكون طرفاً في أي متغيرات جديدة.

كما ظهر لاعبون جدد في المشهد، أو ما يمكن أن يطلق عليه الرباعية الجديدة، في ضوء دخول الصين كضامن بين الرياض وطهران، والتحركات الروسية التي يتصور أنها ستكون أكثر تركيزاً على القضية الجنوبية ذات الصلة بالمشهد العام لتسوية الأزمة اليمنية، وذلك بالتوازي مع تنامي أدوار سلطنة عمان والعراق، وينسب لهما الفضل في إطلاق مسار الوساطة التي تشكل أبرز ملامح التغيير في المرحلة الحالية.

ومع ذلك، لا يُعتقد أن الرباعية الجديدة ستتجاوز الرباعية السابقة، فعلى الرغم من التقاطعات الشكلية إلا أنه يُعتقد أن دورها سيكون تكميلياً مع ملاحظة أن الرباعية الجديدة لم تشكل آلية تنسيق موحدة. كما يؤخذ في الاعتبار أنه لا يمكن استبعاد الدور الأمريكي في اليمن، وهو دور مركزي في الترتيبات الأمنية الإقليمية على وجه التحديد، ومن الصعوبة بمكان استبداله بأي من الدورين الصيني والروسي، كما لا يمكن إغفال دور بريطانيا أيضاً في هذا الصدد.

4- تحولات خريطة توازنات القوى: شهدت خريطة توازنات القوى متغيرات متزامنة مع بدء المشهد الانتقالي، إذا ما اعتبر أن هذا المشهد بدأ في أبريل 2022، وتتكون هذه الخريطة من مجلس القيادة الرئاسي اليمني، وهو صيغة ائتلافية للمكونات السياسية اليمنية عالجت إشكاليات سياسية هائلة كانت قائمة من قبل، لكنها لم تنصهر بعد في مشروع سياسي موحد، بل لا تزال المشروعات السياسية لكل مكون منها قائمة، حتى وإن كانت تتوارى – في الكثير من الأحيان – بسبب جدول الأعمال الذي يفرضه الأمر الواقع، لكنها تنفجر من آن لآخر. فعلى سبيل المثال، تُشير تقارير ومؤشرات جنوبية إلى مخاوف المجلس الانتقالي من تراجع القضية الجنوبية على سلم الأولويات لصالح التسوية مع الحوثيين.

وتضم هذه الخريطة أيضاً المليشيا الحوثية التي تدفع بقوة مشروعها الخاص في المرحلة الحالية. فعلى سبيل المثال، تعزز المليشيا من سلوكياتها الاقتصادية نحو الاستقلال عن السلطة، وهو ما يظهر في الإجراءات التي اتخذتها في فصل البنوك ومصادرة أموال المودعين، ومنع عبور الشاحنات من مناطق الشرعية إلى مناطقها بشكل عام، إضافة إلى تعز مؤخراً، وذلك بهدف الالتفاف على محاولات قوة الساحل الغربي لتخفيف هذا الحصار. يضاف إلى ذلك المظاهر الطائفية، وأبرزها مسعى بناء مشهد طائفي محل صنعاء القديمة.

وإجمالاً، لا توجد نقاط توافق بين الشرعية والحوثيين، بل على العكس تتسع فجوة الخلافات وتتزايد وتيرة التصعيد ربما بشكل غير مسبوق، ففي الوقت الذي سيتم فيه الإفراج عن محمود الصبيحي، أول وزير للدفاع بعد ثورة 2011، سعت المليشيا إلى اغتيال وزير الدفاع الحالي في الشرعية محسن الداعري. ومن ثم لا يعتقد أنه بالإمكان تجسير الفجوة ما بين القوى اليمنية بسهولة، كون خريطة توازنات القوى لا تقوم على أساس خلاف سياسي فقط، بل تتجاوزه إلى حد الخلاف الأيديولوجي الحاد.

السيناريو التالي

كما سلفت الإشارة، من الصعوبة بمكان التنبؤ بالسيناريو التالي، لكن من المؤكد أن المشهد اليمني قيد إعادة التشكل كلية، ولا يزال من غير المعروف من أين يمكن أن تكون البداية، هل بعد التقارب السعودي – الإيراني، وبعد الزيارة المرتقبة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى الرياض؟، وهل سيكون للقمة العربية القادمة في الرياض دور أيضاً في هذا المشهد؟ ومع ذلك، فإن القاسم المشترك في أغلب التقديرات يُشير إلى أن الهدف هو الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار أولاً، وهو ما سيعد نقلة استراتيجية في الأزمة، لكن بأي طريقة ووسيلة؟، هل عبر مراقبين دوليين؟

كما أن وقف إطلاق النار ستكون له استحقاقاته الخاصة، من حيث طبيعة الوضع الأمني في اليمن. فضلاً عن أن طبيعة الاتفاق سترسم ملامح المرحلة التالية للتسوية، ولا سيما في الملف الأمني، خاصة ما يتعلق بمستقبل سلاح المليشيا، ويلي ذلك الخطوات الأكثر تقدماً، ومنها عملية الهيكلة العسكرية والأمنية بشكل عام إذا ما انطلقت عملية التسوية.

وفي كل الأحوال، سيكون للديناميكيات الجديدة، ولا سيما الحل الإقليمي، والدعم الدولي، أثر إيجابي لدفع مسار التسوية، لكن من الأهمية بمكان التفرقة ما بين عملية التسوية وعملية بناء السلام في اليمن، حيث تعكس المظاهر الحالية أن كل الأطراف تسعى إلى تسجيل نقاط لبناء التوازنات الجديدة في المشهد. فعلى المستوى الإقليمي، هل بالفعل سيتراجع التدخل الإيراني في اليمن؟، صحيح أن عمليات نقل الأسلحة متوقفة تقريباً منذ توقيع إعلان بكين في 10 مارس الفائت، لكن لم يكن الدور الأمني للحرس الثوري يقتصر على هذا الحد، كما أن هناك خبرات إيرانية للالتفاف على أي صيغة ترتيبات أمنية.

وفي اليمن أيضاً، يمكن أن تتوقف الحرب، ويمكن أن تبدأ الأطراف عملية تسوية طويلة المدى، لكن التجربة اليمنية دالة أيضاً على أن المشروعات الخاصة تتجاوز المشروعات الوطنية حتى وإن تصدرت الأخيرة عناوين المشهد، إلى جانب أن الثأريات حاكمة في العلاقة ما بين المكونات المحلية، ولا يمكن تجاوزها لمجرد التوصل لاتفاق سياسي. وبالتالي فإن التسوية ممكنة، لكن بناء السلام سيظل أبعد من ذلك بكثير.