تصادم زعامات:
مسارات الصراع السياسي في العراق بين المالكي والصدر

تصادم زعامات:

مسارات الصراع السياسي في العراق بين المالكي والصدر



يعكس اقتحام أنصار “التيار الصدري” البرلمان للمرة الثانية في أقل من أسبوع مستوى التوتر المتصاعد في المشهد السياسي العراقي، وذلك برغم إصدار كافة الأطراف السياسية ذات الصلة بالأزمة، بمن فيهم قادة “الإطار التنسيقي” كل على حدة، بيانات عدة دعوا فيها إلى التهدئة والعودة لطاولة الحوار السياسي لإنهاء الخلاف السياسي المتصاعد داخل البيت الشيعي على إثر إعلان “الإطار” تسمية محمد شياع السوداني رئيساً للوزراء، الأمر الذي رفضه “التيار الصدري” بالنظر إلى دور زعيم ائتلاف “دولة القانون” وعضو “الإطار” نوري المالكي في عملية تسمية رئيس الوزراء.

مؤشرات متعددة

وصول التوتر إلى هذا المستوى يدفع بالكثير من الساسة والمراقبين المحليين إلى الاعتقاد بأنه قد تكون خلفه كرة كبيرة من اللهب قد تحرق المشهد بأكمله في مقبل الأيام. فواقع اللحظة التي صعّد فيها الصدريون باحتلال البرلمان، وإعلان اعتصام مفتوح، وخطاب زعيم “التيار” مقتدى الصدر نفسه في ظل تلك الأجواء، يؤكد على أن “التيار” ذهب إلى نقطة اللا عودة مع “الإطار التنسيقي” بتكوينه الحالي في الأزمة الحالية، وذلك بالنظر إلى عدد من المؤشرات منها:

1- تراجع جدوى الحوار بين الخصوم: فكافة الأطراف السياسية دعت إلى الحوار، لكنها لم تُشِرْ إلى ما هي أجندة الحوار الممكنة، وأين يمكن البدء في الحوار، بعد عشرة أشهر على الانتخابات، وإجراء سلسلة من النقاشات التي عرفت بحوارات “الحنانة”، دون أن تُفضي إلى توافق سياسي، بل على العكس، سار أطراف الحوار خطوات إلى الأمام من الصعوبة بمكان العودة عنها، فالكتلة الصدرية المتصدرة للانتخابات تقدمت باستقالاتها من البرلمان، وجرى استبدال نوابها بآخرين، وبالتالي أصبح الدافع الرئيسي للحوار هو منع الانزلاق إلى الصدام المسلح على نحو ما ألمح إليه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بأن “الحوار ألف مرة قد يكون أفضل من الصدام”. لكن هذا الدافع لم يَلْقَ استجابة من الأطراف، مع ارتفاع سقف المطالب من الجانب الصدري بتغيير قواعد اللعبة برمتها، فاحتلال مبنى البرلمان رسالة تنطوي على الرغبة في حله، وبدء العملية السياسية من جديد، وهي أيضاً نقطة ليست محل توافق.

2- تغير أبعاد الأزمة القائمة: انتقل الخلاف من مربع أزمة التوافق السياسي الخاصة بمنصب رئيس الجمهورية، ثم أزمة تشكيل الحكومة ما بين كتل وائتلافات سياسية؛ إلى تصادم زعامات- الصدر والمالكي- بسبب تسريبات الأخير التي نالت من الأول وباقي الأطياف السياسية والعراقية؛ إلا أن وقعها على الصدر في خضم الأزمة كان بمثابة زلزال سياسي بشكل عام، ونقطة التحول الرئيسية في المشهد التي أدت إلى انفجاره بالشكل الحالي، وقد ضاعف منها خطوة تسمية السوداني المحسوب سياسياً على المالكي وعدم سحب ترشيحه، في إشارة إلى الإصرار على الإبقاء عليه، خاصة بعد الاقتحام الأول للبرلمان من جانب أنصار الصدر.

3- هندسة إيران لموازين القوى: تحاول إيران صياغة الترتيبات السياسية من جديد عبر الدور الذي يمارسه قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني، والذي تحول من “الوساطة” بين أركان البيت الشيعي إلى هندسة لترتيب موازين القوى السياسية في بغداد، والتي يبدو معها أن هناك اتجاهاً لتصفية الصدر سياسياً، بعد أن أصبح يمثل تياراً في الداخل العراقي لا يدور في فلك السياسة الإيرانية، بينما لا تريد طهران وصول الفرز السياسي في الساحة العراقية إلى الواقع الحالي، الذي يبدو فيه أن التيار الصدري يبلور موقفاً سياسياً وطنياً يظهر معارضة لإيران، ومن ثمّ يتحتم إما إعادته إلى المحور الإيراني على نحو ما كان قائماً في عهد قاسم سليماني (قائد “فيلق القدس” السابق)، أو تصفيته سياسياً، وهي مسألة قد تعمل عليها طهران لوقت طويل، إذ إن محاولة تصوير خطوات قاآني بالفشل السياسي هو استعجال في الاستنتاج بناءً على تصور أن الأخير يهدف إلى رأب الصدع السياسي، بل على العكس من ذلك، يبدو أنه دخل في مرحلة “البتر السياسي” للصدر.

4- ضعف تأثير جهود التهدئة: رغم أن زعيم تيار “الحكمة” عمار الحكيم عرض الوساطة بين زعيمى “التيار الصدري” و”دولة القانون”، إلا أن العرض لم يقابل بخطوة استباقية لنزع فتيل الأزمة، مثل سحب ترشيح السوداني، إذ ربما يدرك الحكيم وآخرون أن تلك النقطة لن تنزع فتيل الأزمة بعد أن تجاوزها الوقت، وبالتالي سيتعين تقديم تنازلات أكبر قد لا يكون طرف واحد داخل “الإطار” لديه القدرة على تمريرها. كما أن مسألة استبعاد المالكي من “الإطار” ربما لا تزال هي الأخرى غير مطروحة، حتى وإن رغب فيها البعض واعتبرها مخرجاً من الأزمة، فهي ستضعف “الإطار” سياسياً، كما قد ترتب خطوة تصعيد أكبر بترك المالكي في مواجهة الصدر، وهو ما يعني التعجيل بالصدام الذي لن يكون عنوانه (الصدر – المالكي)، وإنما البيت الشيعي بأكمله. كذلك فإن تراجع الصدر خطوة أو خطوات إلى الوراء يعني أنه قَبِل بعملية التصفية السياسية.

الخطوة التالية

من الصعوبة بمكان تصور ما هو السيناريو الذي يندفع نحوه المشهد السياسي العراقي، لكنه في كل الأحوال لن يكون مشهد استقرار سياسي بشكل عام، بعد أن أصبحت كافة الأطراف في مأزق، مما سيزيد المشهد تأزماً على المدى القريب. فالتيار الصدري ذهب خطوة إلى الأمام يدعو فيها إلى تغيير قواعد اللعبة برمتها، وقد يكون من باب المثالية السياسية ما يشير إليه مراقبون محليون بأن ما يجري هو حصاد تركيبة النظام السياسي العراقي التي وصلت إلى مداها واصطدامها في نهاية المطاف بحائط صد، مما يستوجب إعادة النظر فيها بدستور جديد يعيد وضع قواعد مختلفة للعبة السياسية.

 لكن الواقعية تقول إنه إذا لم يحدث توافق على شخصية سياسية، وتصادم الفاعلون البارزون الذين وصلوا بالمشهد إلى صورته الحالية؛ فهل يمكن أن يتوصلوا إلى توافق على ما هو أصعب من ذلك بكثير، وهو العودة إلى الوراء لتصويب مسار دام فترة تتجاوز العقد ونصف العقد؟.

على هامش المشهد، يترقب الآخرون ما هو قادم، فرئيس البرلمان محمد الحلبوسي علّق انعقاد البرلمان حتى إشعار آخر، وهو قرار اضطراري في ضوء ما يجري من اعتصام يبدو أنه سيطول في البرلمان من جانب قواعد “التيار الصدري”، وكذلك الساسة الأكراد الذين وضعوا في خانة الاحتقان السياسي بتسريبات المالكي الذي وصفهم بـ”الصهاينة”، فربما سيتراجعون خطوة إلى الوراء، مع إيلاء أهمية للوضع الأمني المتأزم على خلفية انتهاز تركيا الصراع السياسي للتغطية على أحداث دهوك، وزيادة التصعيد ضد حزب العمال الكردستاني، وبالتالي لن يكون دخول الأكراد حلبة الصراع السياسي في بغداد أولوية مرحلية، بينما يقف الساسة السنة موقف المتفرج المستفيد من التأزم الشيعي، مع الرغبة في تصفية المالكي سياسياً، ليس بدعوى أنه وصفهم بـ”الخونة”، ولكن بالنظر إلى إرث العداء المتبادل بين الطرفين خلال عهدتي رئاسة المالكي للوزراء.

اختبار صعب

في الأخير، يبدو أن المشهد العراقي باتجاه انفجار سياسي كبير، وإن كان من الجائز القول إن المعركة لا تزال في الساحة السياسية، لكن لا ضمانات لبقائها على هذا النحو، خاصة وأنه لا توجد آليات لتبريد المشهد السياسي الساخن، ولا يعتقد أنه يمكن البدء في عملية التبريد قبيل جولة مصارعة سياسية تتم فيها الإطاحة بأحد أطراف الأزمة إلى خارج الحلبة السياسية، قبل أن يبدأ مشهد جديد، لا يزال من المبكر إدراك ملامحه، في ظل حالة التصارع السياسي المتسارعة حالياً. فالمداخل التقليدية لتفكيك الأزمة، ومنها سحب ترشح السوداني وتسمية بديل، والاستمرار في تعليق عمل البرلمان إلى حين حلحلة أزمة البدلاء أو موقع الكتلة الصدرية من خريطة البرلمان عبر تخريجة قانونية قد ترى أن الاستبدال غير جائز، أو الذهاب إلى حل البرلمان؛ كل تلك المداخل لا تعني أن الأزمة انتهت، وإنما تعني أن هناك جولة أخرى ستظل مؤجلة لحين حل الخلاف الجذري الذي أوصل المشهد إلى هذه النقطة.