الخيار الثاني:
مسارات إيرانية موازية في الملفات الإقليمية

الخيار الثاني:

مسارات إيرانية موازية في الملفات الإقليمية



تسعى إيران بشكل مستمر إلى توسيع نطاق الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع التطورات التي تشهدها الملفات الإقليمية المختلفة. إذ ترى أن مواجهة خيار واحد يمكن أن يهدد أمنها ويُقوِّض مصالحها في الإقليم. ورغم أن ذلك قد لا يكون توجهاً جديداً في السياسة الخارجية الإيرانية، إلا أنه متجدد، بفعل التداعيات التي تفرضها تلك التطورات وتكون باستمرار محط متابعة وتقييم من جانب صانعي القرار في طهران. وربما يعكس ذلك، في قسم منه، طبيعة السياسة التي تتبناها إيران، والتي تصفها اتجاهات عديدة بأنها “حربائية” للتعبير عن قدرتها على التلون أو التعايش مع التطورات المختلفة، بهدف استحصال أعلى مستوى من تداعياتها الإيجابية وتجنب أكبر قدر من تأثيراتها السلبية.

مؤشرات عديدة

أعلنت إيران، في 18 أكتوبر الجاري، أنها سوف تستأنف المحادثات النووية مع قوى مجموعة “4+1” في بروكسل، في 21 من الشهر نفسه، خلال الزيارة التي سوف يقوم بها مساعد وزير الخارجية علي باقري كني، في إطار المشاورات التي تجري بين إيران والاتحاد الأوروبي والتي بدأت بزيارة منسق الاتحاد بشأن المحادثات النووية انريكي مورا إلى طهران في 14 من الشهر الحالي.

هنا، يمكن القول إن إيران تسعى إلى تأسيس مسار موازٍ لمفاوضات فيينا، عبر إجراء مفاوضات مع مجموعة “4+1” مع استبعاد الولايات المتحدة الأمريكية التي تشارك في مفاوضات فيينا بشكل غير مباشر. وقد بدأت إيران تدعو إلى تبني هذا المسار خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر الفائت، حيث سعت إلى إجراء مفاوضات مع وزراء خارجية المجموعة، إلا أن الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن المشترك في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل كان واضحاً في رفض ذلك، عندما قال، في 25 من الشهر نفسه، أنه “لا بديل لمنصة فيينا في المفاوضات مع إيران”.

اللافت في هذا السياق أيضاً أن إيران سبق أن اتبعت الخيار نفسه مع الولايات المتحدة الأمريكية قبل انعقاد مفاوضات فيينا، التي توقفت عند جولتها السادسة في 20 يونيو الماضي. إذ وافقت على إجراء مباحثات سرية مع الأخيرة في مدينة فرانكفورت الألمانية، حسب ما أشارت صحيفة “الغارديان” البريطانية في أول أبريل الماضي، رغم أنها ما زالت ترفض مشاركتها بشكل مباشر في مفاوضات فيينا.

وعلى الصعيد الإقليمي، تبدو هذه السياسة في أبرز صورها. ففي الوقت الذي أكدت إيران على دعمها لأمن واستقرار العراق، خلال قمة بغداد للتعاون والشراكة التي عقدت في 28 أغسطس الماضي، فإنها تدير قسماً من صراعها الإقليمي مع الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة العراقية، عبر الإيعاز لحلفائها من الميليشيات المسلحة باستهداف المصالح الأمريكية، وهو التوجه الذي تصاعدت حدته في العامين الأخيرين ووصل إلى ذروته في مرحلة ما بعد قيام الأخيرة بشن عملية عسكرية أسفرت عن مقتل قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني برفقة نائب الأمين العام لـ”الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس في 3 يناير 2020، حيث ردت بعدها إيران بضربات صاروخية على قاعدتين عراقيتين تتواجد بهما قوات أمريكية، ومنحت الضوء الأخضر بعد ذلك للمليشيات الموالية لها للقيام بتلك المهمة.

دوافع مختلفة

يمكن تفسير إصرار إيران على تبني آلية “المسارات الموازية”، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- استنزاف الأطراف المنخرطة في المفاوضات: ربما تسعى إيران من خلال هذه السياسة إلى إنهاك القوى التي تنخرط معها في المفاوضات، لاسيما الدول الغربية، مستندة في هذا السياق إلى الدعم الذي تقدمه لها كل من الصين وروسيا، على أساس أن ذلك يمكن أن يدفع تلك الدول إلى إبداء مرونة أكبر، بشكل قد يساعد في الوصول إلى أعلى مستوى من العوائد الاستراتيجية التي يمكن أن تحصل عليها إيران في حالة إبرام صفقة جديدة تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي.

2- توسيع نطاق التباينات بين الدول الغربية: ساهمت الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها إيران في الفترة الماضية، على غرار الوصول بعمليات تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 60% وإنتاج أكثر من 10 كيلو جرام من هذه النسبة، وتوسيع نطاق عمليات التخصيب لتشمل مفاعلي ناتانز وفوردو، في حدوث تقارب في سياسات الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، على عكس ما كان قائماً خلال عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، على نحو بدأ يفرض ضغوطاً أقوى على إيران. وهنا، فإنها تسعى من خلال المحادثات مع مجموعة “4+1” في بروكسل إلى استقطاب دعم تلك الدول، ومحاولة دفعها إلى ممارسة ضغوط على الإدارة الأمريكية للاستجابة لبعض المطالب الإيرانية، على غرار الحصول على ضمانات بشأن عدم خروج واشنطن مجدداً من الاتفاق، وتخفيف العقوبات المفروضة عليها بالتوازي مع حدوث أي تقدم في المحادثات النووية.

3- احتواء اتهامات التدخل في الشئون الداخلية: تواجه إيرانباستمرار اتهامات بالتدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة، على غرار ما يحدث في دول الأزمات لاسيما العراق ولبنان وسوريا واليمن، على نحو يدفعها دوماً إلى نفى تلك الاتهامات وتوجيه رسائل بأنها تدعم الجهود التي تبذل للوصول إلى تسويات سياسية لتلك الأزمات أو لتحقيق الاستقرار في بعض تلك الدول. ومن هنا، يمكن تفسير مشاركة طهران في قمة بغداد للتعاون والشراكة. ورغم أن تلك المشاركة كانت على مستوى وزير الخارجية، في إشارة إلى أن طهران تبدي تحفظات على محاولات بعض القوى الانخراط في جهود تحقيق الاستقرار على الساحة العراقية، وربما تعزيز التوجه نحو تطوير العلاقات العراقية على المستويين العربي والدولي، إلا أنها شاركت في النهاية بهدف توجيه رسائل تفيد أنها تتعاطى إيجابياً مع الجهود المبذولة في هذا السياق، وهو ما لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أن إيران ما زالت تحرص على التدخل في الشئون الداخلية العراقية، على نحو يبدو جلياً في التحركات التي يقوم بها حالياً قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري إسماعيل قاآني من أجل الوصول إلى توافق بين القوى السياسية الشيعية حول الائتلاف الحكومي المتوقع تشكيله في المرحلة القادمة بناءً على التوازنات الجديدة التي فرضتها نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 10 أكتوبر الحالي.

4- تقليص حدة الضغوط الإقليمية والدولية: وهو ما يبدو جلياً في الحالة السورية. إذ تسعى إيران إلى التأثير في المسارات المحتملة للصراع السوري بما يتوافق مع حساباتها ومصالحها، ومن هنا فإنها لم تتعاطى بإيجابية مع مسار جنيف الذي تقوده الأمم المتحدة وتحرص بالتوازي مع ذلك على توسيع نطاق التنسيق مع روسيا وتركيا عبر مسار الآستانة. إذ أن المسار ألأممي يفرض استحقاقات سياسية ودستورية ترى طهران أنها لا تتوافق مع تلك المصالح، على غرار وضع المعارضة في الحكم، في حين أن المسار الموازي في الآستانة يضع في قمة أولوياته المشاركة في صياغة الترتيبات السياسية والأمنية السورية بالتعاون مع موسكو وأنقرة، بعد أن بدأت الأخيرة في مراجعة سياستها من جديد باتجاه عدم التعويل على إسقاط النظام السوري، عقب تغير توازنات القوى العسكرية لصالحه في الأعوام الماضية.

5- الوصول إلى تفاهمات مع الخصوم: لم تستبعد طهران في أي مرحلة آلية التفاهم مع الخصوم. وهنا، فإنها تسعى عبر ذلك إلى تقليص احتمالات الدخول في مواجهة عسكرية، أو الاستعداد مسبقاً لاستحقاقات استراتيجية متوقعة. ويمثل الموقف الإيراني من التطورات في أفغانستان مثالاً على ذلك. إذ أن إيران كانت حريصة على فتح قنوات تواصل مع حركة “طالبان” التي كانت أحد ألد خصومها الإقليميين وقت أن كانت تحكم أفغانستان في الفترة من 1996 إلى 2001، ووصل التوتر بين الطرفين عام 1998 إلى درجة حشد القوات من أجل الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة قبل أن تتراجع إيران في اللحظة الأخيرة. لكن مع سقوط نظام “طالبان” واقتراب الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان من حدود إيران، بدأت الأخيرة في تغيير سياستها تجاه خصمها السابق، حيث أجرت مع الحركة محادثات عديدة واستضافت قادتها أكثر من مرة، كان آخرها في 7 يوليو الماضي، عندما عقدت اجتماعاً أطلقت عليه “الحوار بين الأفغان” جمع وفدين من الحركة والحكومة السابقة. وهنا، فإن إيران تسعى عبر ذلك إلى تقليص احتمالات الانخراط في مواجهة جديدة مع “طالبان” أو دفع الأخيرة إلى استهداف مصالحها في أفغانستان عقب سيطرتها على الحكم مجدداً في 15 أغسطس الماضي، على غرار ما كان يحدث في نسختها الأولى.

توجه قائم

ختاماً، يمكن القول إن “المسارات الموازية” تعبر في النهاية عن جانب تكتيكي في السياسة الإيرانية تستهدف من خلاله طهران تعزيز موقعها التفاوضي في بعض الملفات، مثل الملفين النووي والسوري، واستنزاف قدرات الأطراف الأخرى المنخرطة في تفاهمات معها حول تلك الملفات، وهو توجه يبدو أنه سوف يستمر خلال المرحلة القادمة، على ضوء استمرار المفاوضات حول الملف النووي، وتعثر الجهود المبذولة للوصول إلى تسويات سياسية للأزمات الإقليمية المختلفة.